غزّة التي تُشبه اللّغز

26 نوفمبر 2023
أطفال فلسطينيون أمام منازلهم التي دمّرتها غارة إسرائيلية على غزّة، 19 الشهر الجاري (Getty)
+ الخط -

غزّة: يمكن متابعة الحبكة بشكلٍ مثالي، بيد أنّ الطريقة التي يتمّ شرحها بها تسمح لك بقراءتها بشكلٍ مُغاير. دوماً يعجبني أنّ هناك لغزًا معيّنًا، وأعتقد أنَّ غزّة تُشبه اللّغز. الصور والعناصر التي تتكرّر دوريًّا بطرد الغزازوة من التاريخ، والأصوات والأغاني والوجوه هي أدلّة. المثالي بالنسبة إليّ هو أنّ الصور والأصوات هي رواة القصّة، وليس الكلمة، خاصّة الكلمة في محلّ التفسير والتحليل.

غزّة: ثمانون بالمئة من سكّانها لاجئون داخليّون سابقون، بفعل حملة التطهير العرقي في عام الفلسطينيّين الأشدّ سوادًا. غزّة، والبعض من عربنا يهرب من الرسالة والمحتوى، لكن من الواضح أنّه لا يطرح قضايا مهمّة على الطاولة، سوى الاستنجاد بالعدوّ، للحفاظ على بقاء العرش.

بالنسبة لي فإنّ الصور والأصوات هي رواة القصّة وليس الكلمة

غزّة: في زمنين ومكانين مختلفين، يتحدّث طفلها، كاتب السطر، عن عالم العمل الأسود داخل يافا المُحتلّة وحواليها، من حيفا إلى المجدل، وعن الاختلافات بين الطبقات الاجتماعية هناك، ما يعزّز نازعهم الجيني في ممارسة عنصريّتهم، على الشرقي والأفريقي منهم، فما بالك بنا نحن العدوّ اللامرئي، إلّا وقت انفلات الشتائم؟

فلسطين: ما هو المكان الذي نستعيده من فم الوحش، بناءً على مآسي تراث الآباء والأجداد، وما إذا كنّا قادرين على تغيير هذا المكان، بوضع بصمتنا عليه للأبد؟ أهو الكابوس الكبير: كيف يتمُّ استبدال الدين الكاثوليكي بدين السوق، عند الغرب المجرم راعي الربيبة وحاميها؟ متى تصوّرٌ كهذا يرفع روح الدعابة عند المكتئبين من حركة سير التاريخ، وهو ينحو للشر المستطير، جلَّ الزمن؟ هل نعتقد أنّه إذا لم توضع الفكاهة فيه فلن يكون فيلمًا وثائقيًّا جديًا؟

غزّة: هل يُفلت الفلسطيني أينما كان، منها وفيها، ألماً واستبصارًا، من أنّه لن يصحّ سوى الصحيح، وأنّ السيناريو الأوحد هو معادلة السيف والدم؟ نعم. سواء كان هذا سيرسلنا للأفضل أو للأسوأ، فإنّه من السُّنن: الواقع السياسي فقط من يستطيع صنعه، لا مخيال المثقّفين والأدباء.

غزّة: قلبُ نضال الشعب، أينما كان الفلسطيني المقيم والطائر، مشتَّتًا أو لاهثًا. هي مزيج من الشخصي والخيالي، على الرغم من أنّك لست بحاجة إلى صنع فيلم سيرة ذاتية ليكون شخصيًا للغاية، ويكفي أنّه يستجيب لطريقتك في الوجود بالعالم.

كم مرّة سمعت جدّتي رحمة وأمّي تسترجعان تفاصيل العيش الفلاحي هناك، وشتّى تبدّياته، مع نهنهةٍ تجهدان لإخفائها في نهاية القصّة؟ لِمَ جدّتي بعكس أمّي كانت تتحدّث عن الهجرة فقط من خلال التهويدات والترويدات؟ كم مرّة أردتُ أن أفعل شيئًا مشابهًا مع أولادي وأحفادي، بالسرد الحكائي والغناء، لكنّ القلب لم يطاوع؟ هل الكلمة مثل السينما: أداة للشهادة على الأشياء التي ستضيع مع حلم طوباوي بعودتها، بعد زمن؟

"فلسطين مهرها غالي يمّا".

وها نحن ندفعُ اليوم حصّةً منه على الحساب، فطوبى لطوباويي حلم التحرّر من عموم خلقها، مقاومين وعاديّين، وبعضهم يخمش المستحيل بالسلاح، بينما بعضٌ آخر، لا ينام، مجترحاً ليلَ المأساة، صمتًا وحشرجةً، حين يعوز الغناء.


* شاعر فلسطيني مقيم في بلجيكا

موقف
التحديثات الحية
المساهمون