1
من النخلة إلى النخلة
يتأمَّل غرابُكَ المشغول جسدي
ويتفحَّص قبرًا شاغرًا في مواعيدهِ.
يصيحُ كلَّما بانَ شقٌّ في السماء
وانكسَرَت كأسٌ عليهِا وردةٌ لم يكتمل رسمُها:
لم يمُت بعد،
غيرَ أنَّ الموت أعرج ويتعثَّرُ بعاقولٍ يطلعُ من التعاويذ.
كأنَّ عمري مسروقٌ منه فلا يبرح حتّى أخطو
يتبعني ويطلب موتي على عجالةٍ:
تعال أيُّها الموت الأعمى
وافتح عيونكَ الواسعةِ.
غرابٌ ينعقُ في أغاني المدينة
غرابٌ يتوارى برمل البادية
غرابٌ ينتحرُ في رأسي.
2
فأسُ مَن هذه المدهونة بلسانِ أفعىً ومشحوذة بأنيابها؟
شجرةُ مَن هذه التي يتدلّى منها مقيَّدون بالخفافيشِ
ومخطوفون يُعذِّبهم الدود وينهبُ أحلامهم؟
من الذي أسال لعابه بينما تجرّه ملائكةٌ من يمينه
وشياطين من شماله حتّى انشقّ
من الذي نقشَ بذاكرة الحجرِ وصيَّته
بينما يجرُّونه إلى أقاصي الغيب!
سوى الموتِ الذي يربط الآن خيوله في الإسطبلِ ليستريح
لا أحد يدري.
3
يعقدُ الموتُ لجام خيلهِ التي كلَّما تصهلُ يقشعرُّ القشّ في هبائهِ، وينقبضُ قلب سوسنةٍ في الجوار.
وفي اللحظةِ التي يستريحُ فيها
تلقي الأمُّ بطاسةِ الماء خلفَ الولد الذي يتذيَّلُ اسمُه القائمة، وترمقه يمسح عنها بتلويحةٍ، دمعةً لم يحن وقتها بعد.
وبينما يُرخي رأسَهِ على جذعٍ نحروا عليه الأضاحي
وجرى عليه دمٌ كثير
يسهو النازل من النخلةِ
فيسقطُ في حضنِ عريشةِ العِنبَ ويقول:
لا بدَّ أنَّ الموت يدُخِّنُ الآن سيجارته ولم ينتبه لي.
يغمض عينيهِ
فيعبر الجندي من الكمين إلى الكمين وهو يقرأ وصيَّته،
فتخطئُه أعينُ القنّاصين وأنفاسهم محبوسةٌ في البندقيّة.
يحلمُ الموت بماذا إذا غفا!
خلف عينيه لا أحد يدري
غيرَ أنَّه كان يهذي ويتعرَّقُ جبينُه
حين رفع الجزّار سكِّينه فرقَّ قلبه على الضحيَّة.
4
في خطوةِ كلِّ جلّادٍ تتناسلُ الضحايا،
يضربون أوتادهم في الصراخ
ويقيمون فيه.
في كلِّ يدٍ تنمو سوطٌ يطول
ولكلِّ سوط ظهورٌ محنيَّة
وعلى كلِّ مقبضٍ
بصمةُ سجّان.
في كلِّ خطوةٍ جلّادون يتناسلون
ويهبونَ المدينةَ لجلَّادين.
5
جئتكم بجمجمةٍ مخمورةٍ بالأشلاءِ
ومغطَّسةٍ بالخوف المخبوءِ في السراديب
جئتكم
لتكتبوا على جلدِ الذّئب بالزعفران وصيَّةَ الشارد إلى الشارد
ولتكشفوا عن قرينهِ المنزوي خلف باب الغيب
هل تريدون اسم أمّهِ؟
سعاد في دهاليزِ حزنها المريب
اسم أبيه؟
صلاح في خراب مفاصله
ويومه الذي هو فيه؟
كلُّها واحدة
يُقيِّدُها نفَسٌ عليل
وتتثاءبُ فيها عيونٌ ماردة.
جئتكم لأنَّ فيه إنساً مُتعبين
وجِناً يتكدَّسون موتى.
6
شبحٌ يشعل القنديل
شبحٌ يطفئه
و"بلدٌ" في أزقَّتها القصيرة
موتىً طال ضياعهم.
7
يا صوتكَ رنين الجرسِ في عنق الموت
يا وجهكَ ذابلًا تلوكُ به الوحشةُ في مراعيها
يا يدك يد الغريبِ يطرق بها المجاهلَ ويفتحُ بها غياهبَ الليل
يا عمركَ تعدو به في الكمائن وترفعهُ دامياً في الهزيمة
يا اسمكَ على الرُّخام يقرأه الغروب في المقبرة
يا نداءاتكَ يسمعها الدفَّانونَ وهم يوسِّعون اللُّحود
يا جزعَكَ بوقٌ يوقظُ الفانين في فنائهم
ويا موتكَ يشتهيكَ الآن في المطامير.
8
منذورًا تتبَعُكَ السكاكين التي تترقَّبُ البِشارة على لسانٍ كليل
وتنشرحُ لدمكَ السواقي، كي يسيل بها وفي سيلانهِ زغرودةُ العاجز
لا شأنَ لكَ بحوائجهم التي علَّقوها بباب الغيب
ولا عن أُمنياتهم التي نقشوها مرارًا على مسامع اليائسين
ولم تقرأ طلباتهم مكتوبةً بالسرِّ ومدسوسةً في خفاء النَّهر
لا شأنَ لك سوى أنَّك منذورٌ تُلاحِقه الألسنة
واحدٌ يتهجّاكَ كبشًا منحورًا تعبره الأقدام
وآخرُ يعبركُ قتيلًا فدى بهِ قتيلًا آخرَ
واحدٌ يُبصِركُ جوّابًا لا أرضَ له ولا غُزاة
وآخرُ ينذرُ دمكَ ليطبعهُ على بابِ مدينةٍ مُستباحة.
كم سيكفي جَسَدُكَ لأهوالٍ تُتَمتِمُ بها شفاههم
وكم سيتقاسمونك
ولا تدري سوى أنَّكَ مغدورٌ وحتفكَ يطوف حولك.
9
هي الحياةُ
فكرةٌ في رأسِ مهرِّجٍ يتوازنُ على وجودٍ قَلِق
شتيمةُ ثمِلٍ سرقوا طريق عودتهِ في ظُلمة السيرك
ضحكةٌ تتوحَّشُ في صرخة المجانين.
هي ذاتها
عثرةُ الغافلِ في حصى الأقدار
شهقتهُ مجازُ الألم
ودمه السيّال من الأثر إلى الأثر.
10
هي الرحلةُ رحلتُك
يحدو بكَ حنين إبلٍ إلى غدٍ خفيٍّ في غيبٍ خفيّ
ومنهوبة متاعك
زادُكَ تحرسه ملائكةٌ عميان
وتتناوب على سلبهِ الأبالسة
والرمل يطويكَ يا هبَّة الريح.
هي الرحلة مبدوءةٌ من حيث ظلِّ الموت
ومنتهيةٌ إلى موتٍ أكيد.
* شاعر وتشكيلي من العراق