عَمارٌ يا أهل غزّة

17 يناير 2024
امرأة تحمل طفلها في مخيّم للّاجئين بدير البلح، 14 كانون الثاني/ يناير 2024 (Getty)
+ الخط -

في الحرب، حوّل الغزيّون "الضرورة" إلى فضيلة. رشّة ملح أو رغيف صاجٍ ساخن، تأخذُهما من جارك الآن، أشهى وأكرم من عُزومة فاخِرة، في الزَّمن المُعلّق بين حربٍ مضَت وحرب ستجيء.

أُتابع تكاتُف وتعاضُد وتآزُر الشّعب الفقير مع بعضه، وأبكي من أهون التفاصيل في القصص والحكايا. إنّ هذا لينتج من عفّة قارّة، وسخاء مبذول، وإحساس شاهق بالعدل والشجاعة.

لقد مرّ على القطاع، قبل فترة، مُنخفض جويّ، خفّف من برودته على النازحين في الخيام، عواطفُ أهلهم الحارّة. وهو أمر يحدث في كلّ بيت، مع هذا الشعب أينما كان، منذ أول التاريخ، إلى منتهاه. هم ليسوا مثل أولئك البيض حين يتعرّصون لنفس التهديد، فيحسبونها رويداً رويداً، ويعرفون - وقتها فقط ـ أنّ لا حلّ إلاّ باتخاذ تدابير عاجلة، تربط في ما بينهم.

لا؛ الفلسطينيون، مثل كلّ شعوب الشرق والجنوب، يَصدُرون عن سموِّ الفطرة الإنسانية الصحيحة ونُبلها، هذه التي لم ولن يلوّثها صنمُ "فائض القيمة" الرأسمالي، مهما تقلّبت عليهم الأحداث، من رخاء إلى إدقاع، وبالعكس. لقد تموضع هذا في جيناتهم، مثل جميع الفلّاحين أو ذوي الأصل الفلّاحي من أبناء المنطقة. الشهامة والنخوة، وتقسيمُ قليلك على من لا يملك، بل أحياناً تفضيل أولاده على أولادك، وقد تفاقَمَ زمنُ الشدّة والفاقة والرُّعب،  في عمل "إيثاريّ"، أوجزَهُ عروة بن الورد، فأوفى: "أُقسّم جسمي في جسومٍ كثيرة".

ستبقين إلى الأبد في كَرَمك اللّامع، مهما أفقرك الإجرام

أهلنا في النكبات، يحيون في غيرهم، ويحيا غيرهم بهم، حرفاً ومجازاً. أتذكّر المغُيرة بن شعبة، وهو يشرح عروتنا: "أحسنُ الناس عيشاً، من عاش بعيشهِ غيرُهُ". عمارٌ يا أهل غزّة. عمارٌ يا فلسطين، ولو أوغلت سكّينُهم في لين الرّقاب.

ستبقين إلى الأبد في كَرَمك اللّامع، مهما أفقرك عبدَةُ القتل و"السِّنت" والإجرام، حتى ظنّ البعضُ أنّه الفقر الوراثي. 

ستبقين هكذا مثل التضحية في وعيِ أهاليك، ومثل الزواج في لا وعيهم. 

ستبقين حياةً باللون الأخضر، في أزمنة غبار الرَّدم، يا أمّ القلوب البيضاء حتى اجتراح الأمل، من فم النازي، عنوة، وبالدمّ الشاهق.

ستبقين بيتَ من لا بيت له، وعديدُك الآن نازحون، ينتقم منهم العدوّ بِخسّة هي قرينتُه ومعهودةٌ في السلوك، منذ كان حثالة من الصيارفة الأشكناز، مكروهة ومنبوذة في أوروبا، لأنها "تحلب النملة".

ستبقين وديدنك: ما يؤكل لا يُرفع، ولقمة واحد تكفي لاثنين وأربعة وخمسة أشخاص.

ستبقين الحضن المحميّ لكلٍّ محتاج بعد الخروج من أطوار صدمة أو غيبوبة.

وستنتعشين من عذابك، كما انتعشتِ من مليون عذابٍ ولّى.

ستبقين على غضبك، مُتجهّزة للسجال التالي، حتى لو رأى كثيرون أنّ هذا "فظيع".

ستبقين على أُهبةٍ لتقديم فيلم وثائقي عن حياة الاكتئاب والأمل والنضال، حتى لو حُسبتِ عمياء عن فهم مُعادلات الدُّول.
ستبقين كارهة لأولئك الذين لم يفكّروا مرّةً أن عليهم إعمالُ البصر إلى ما وراء المتوسّط، كي يفهموا الحقيقة: كي يعرفوا أن الصهيونية، أكبر كارهٍ لليهود، وليس العرب. 

كم سيحتاج المؤرّخون لإعطاء هذا الدَّم مكانه في المرويّات

كم من الوقت سيستمر الماضي مضارعاً؟ 

كم من الدم حتى يعتدل الميزان مقدار ملّم واحد؟ كم من السهر سيحتاج المؤرّخون لإعطاء الدم مكانه في المرويّات؟ إننا جسمٌ لا يُقاوَم أمام جسم غير مقبول، إنّ شعبنا أوّل ضحايا الاستعلاء، والجنوبيّين ثانيهم وتاليهم. سيصل اليمين إلى سدّة الحُكم المُطلقة؟ ليكُن، ما الفرق بين يمين القتَلة ويساره.
 
ستبقين بريئةً من حكّام محيطك، يرتدون ملابس السباحة في اجتماع القِمم. إنّه الوقت الذي يكون الأهمّ فيه، كيفية ترفيه الملعوب بهم عن أنفسهم. إن أفضل شيء في حوض السباحة، ألّا تجد رماداً في القاع. وأفضل المزاج عندما تبدو 60 دقيقة قصيرة، ممرّاً للمرح الرئاسي والملكي، إذ السيادة هي تمتين الترفيه عن السابحين في دم الشقيق. بريئة من هؤلاء الأشباح، بسبب من مراكمة السلطة الزائدة، وعدم إعداد البلاد للغزو القادم. بريئة من الأراذل في مرحلة منخفضة المستوى، هرباً من الصراع السياسي، مخافة شقّه العسكري. بريئة من أروقة قصور ملأى بجلسات عمل سامّة. بريئة من عدم وجود طليعيٍّ يفتح صدعاً في صدر الرُّواق، كي يحاور خيالات العصور الوسطى، وهي أعجز ما تكون عن جعل حياة مواطنيها دراما سليمة. دراما تبدأ من احترام الذات، لأنه الصوت الداخلي خالق مواطنين على قدْر من سعادة وسواء.

كلّ قمّة  تُزامنها خطوة للوراء. كلّ قمّة وبها أعداد زومبي وإمّعات بعدد الدويلات. كيف سيتمُّ إعفاء الكيانات من دفع "الخوّات" إلى صندوق الحلّ الموحّد، مقابل المكوث على العرش؟ منهج عِلمي للتصوف السياسي، هذا؟

عملٌ إيثاريّ أوجزَهُ عروة: "أُقسّم جسمي في جسومٍ كثيرة"

قمم وديان راسخة في لغط الغابر، شيوخ بصبغات شعر، مع أن استخدام "تطبيق النمش" على الوجه، لأسرع حيلة كي يبدوا شباباً. علماء أعصاب لا يهتمّون إلّا قليلاً أو لا يهتمّون على الإطلاق بالأسئلة الكبيرة، وهناك أيضاً مزارعون يتعرّضون للتعذيب بسبب هذه الأسئلة. خفافيش ثدييّة تتزاوج دون اختراق.

العدو يعيد فتح المسلخ الغزي، وهم في الحدائق حيث يوفر لهم اللعب فوائد جسدية وعاطفيّة متعدّدة. وعليه، يحقّ لجميع العِيال الاستمتاع والتأرجُح، لكنّ أرجوحة واحدة لا تجعل الحديقة شاملة: لهذا يجب بيان أهمية اللعب المتساوي.

هل نحن محكومون بمواجهة بيانهم الفاتر، ويدنا في جهنم؟

قالوا ولم يفعلوا، كالمألوف، نظروا وفي عيونهم نهبٌ للأفق، وعلى قاماتهم أقمشةٌ رخوة يلاطفون بها طمع الغرب. يرتعبون من الأميركي لأنه يحكم من خلال الجريمة، من انتصار "حركة حماس"، لأن العدو يكره "حماس"، وهم بالتبعيّة يبغضونها. يحيون دون الشعور بالقوّة الضارّة للإغواء الرأسمالي. ينظرون لنا نظرة خيرية مع أننا أسقطنا الخيمة، وها نحن في زوايا القطاع نُضطّر إليها، بعد قرابة مليونَي نازح. حمقى نموذجيون قياسيّون للعدو والصديق. يصدّرون النفط، "خاوة"، حيث يؤدّي الاحتباس الحراري إلى قلب نظام الطقس رأساً على عقب.

هل يُمكن لهم إنقاذ كوكب مُحترق بخرطوم وقود أحفوري؟ هل يتمكّنون من دروس الطبيعة لترويض الجليد وحصد الطاقة؟ 

هل بمستطاعهم شرحُ تغيُّر المناخ في زجاجة زيت زيتون؟ هل بمُكنتهم تحصيل "إنترنت" جديد يعتمد على فيزياء الكَمّ؟

هل لحناجرهم ماءُ نار كي يفقهوا صُداح الشحرور؟

أن يوقفوا نساءهم عن المزيد من الأصدقاء، مع "بوتوكس" أقلّ، تحويل بلقع إلى جنّة مظلّلة تسرُّ من رآها. إن تقليص الهوّة بين الفقراء هو فوق ما يمكن لأيّ شخص منهم أن يفكّر فيه. سخيفة ومبتذلة، لأن جميع "القمم" تحيا في أزمات، ولا نصيب لها من صعود لا يمكن وقفه، كطيران جماعي.


* شاعر فلسطيني مقيم في بلجيكا

موقف
التحديثات الحية
المساهمون