لم تعرف الإنسانية مثل هذا الفحش في القتل، ومثل هذا الإجرام الصهيوني الممتدّ لأكثر من أربعة أشهر، ممتدّ قصد تحويله إلى شيء معتاد. القنابل التي تسقط ليلَ نهار على أطفال غزّة، ونسائها، وشيوخها، ومرضاها، على بيوتها، ومستشفياتها، ومساجدها، وكنائسها، ومعالمها التاريخية، إجرامٌ لم تعرفه الإنسانية.
من المؤكَّد، وأنا أكتب هذه الكلمات، أنّ هناك طفلاً وامرأة وشيخاً تحت الأنقاض يتعذّب ويموت في الظلمة، بعيداً عن العالَم الدنِس بصمته. بعيداً عن إنسانية فقدت إنسانيتها. يموت بعيداً عن "الميديا"، وحيداً وحدةً تراجيدية قاسية عن هذا العالَم المكتظّ.
مؤكَّد أنّ هناك في هذه اللحظة فلسطينيّاً انتزعوا كلّ ملابسه يقف في هذا البرد. ففي أدبياتهم الدينية غير المعلَنة، كلُّ ما سواهم هو حيوان، لذلك تراهم يعرّون الأسرى من ملابسهم لأنّ ليس للحيوان ملابس. ولذلك أيضاً، كثيراً ما تتردّد على ألسنة مجرميهم صفة الحيوان وإلصاقها بالعربي، دون أن يرفّ للغرب "الديمقراطي" جفن.
كانت الجيوش في عصور البربرية، في تلك القرون المظلمة، تستبيح البلاد التي تغزوها مدّة ثلاثة أيام، يطلقون فيها يد العساكر للنهب والاغتصاب، أمّا القتل التكنولوجي، اليوم في "عصر الحضارة وحقوق الإنسان"، فهو مشتدّ وممتدّ وبلا سقف.
اكتشفت شعوب أوروبا حقيقة الصهيونية ولن تعود إلى سباتها
قتَل الفاشيست الإسرائيليّون أكثر من مئة صحافي ليخفوا جرائمهم. في عصر انتشار الصورة نجحوا، بمساعدة الديمقراطيات الغربية العتيدة، في إخفاء جرائمهم، إلّا ما تسرّب بفعل انتشار أجهزة الاتصال الحديثة ومواقع التواصل الاجتماعي، وشجاعة الناس الحاضرين.
أكثر من أربعة أشهر من القتل والتدمير وحكومات العالَم الغربي صامتة، بما يعني أنّها مشاركة في الجريمة، وشعوبُها في الشوارع، بما يعني أيضاً أنّ هذه الحكومات في مكان وشعوبها في مكان آخر، وأنّها بالنتيجة لا تُمثّل شعوبها، وإنّما تمثّل الكيان.
ولعلّ من نتائج حرب التحرير الفلسطينية أنّها حرّرت هذه الجماهير الغربية، التي ظلّت ترزح منذ نهاية الحرب العالمية الثانية تحت عقدة الذنب التاريخية التي غرستها الصهيونية في وعي الشعوب الأوروبية، كما لو أنّ هذه الشعوب مشاركة لهتلر في جرائمه. هذه الشعوب التي كانت هي نفسها ضحية الهتلرية، والتي وجدت نفسها بعد الحرب ضحيةً ومدانةً في الآن نفسه.
ولهذا التحرّر في الوعي الغربي من عقدة "معاداة السامية" ما بعده... لقد اكتشفت الشعوب الأوروبية فجأةً الوجه الحقيقي البشع للصهيونية، ولن تعود إلى سباتها الذي دام أكثر من سبعين سنة.
وعندما ترى جيش الدبلوماسيين الغربيّين، الذي يصل إلى المنطقة للتحدّث للعرب باسم الكيان الصهيوني، تتأكّد من أنّ هذه الحكومات بعيدة عن مواقف شعوبها من الكيان الصهيوني، وتسأل نفسك: هل هؤلاء الدبلوماسيّون وزراء خارجية ألمانيا وفرنسا وإنكلترا وإيطاليا وهولندا والدنمارك والسويد، أم هُم وزراء خارجية الكيان بما أنّهم جميعاً يتحدّثون نيابة عنه؟
ولا أتحدّث عن الأنظمة العربية التي نصّبها الغرب لمثل هذه اللحظة. أنظمةُ الصمت الإجرامي التي تتحكّم في رقاب الناس، والتي نصّبها الغرب حارسة لمصالحه، ولمنع شعوبها من هبّة الغضب وللجم الأصوات والقوى الحيّة من تيارات دينية ولائكية ويسارية.
هل كان نتنياهو ليوغل بعيداً في إجرامه لو كانت كلّ قوانا الحيّة خارج السجون؟ أتذكّر قصصاً من طفولتي للمناضلين التونسيّين الذين هبّوا عام 1948 لنصرة فلسطين؛ هبّوا سيراً على الأقدام مجتازين أربعة آلاف كيلومتر، في اللحظة التي كانت فيها بعض النخب السياسية التونسية تلتقي سرّاً وتتحاور مع منديس فرانس وإدغار فور وغيرهما من الصهاينة الفرنسيّين.
* شاعر ومترجم تونسي مقيم في أمستردام