عن الصورة القادمة من غزّة

عن الصورة القادمة من غزّة

09 مارس 2024
مصوّر فلسطيني يلتقط صوراً للمباني المدمّرة بعد قصف إسرائيلي على مخيّم البريج (Getty)
+ الخط -

تتربّعُ الصور، وخاصّة الرقميّة منها، على عرش اللحظة التواصلية، كما لو أنّها لغةٌ جديدة تتشكّل من أحرفٍ بصريةٍ تنبع من العدسة وتتدفّق على شاشاتنا في مدٍّ جارف يذهلنا ويصيبنا بالدوار. فالشاشات بأنواعها، والصحف والمواقع تقدّم لنا صوراً مختلفة على طبق سحري تتبدّل محتوياته على موائد حياتنا في لمح البصر. 

هذه هي ميزة عصر الصورة، وفيه صار الذهن مُرتبطاً بما يراه كذهن البدائي الذي كانت العلاقة بين عينه والعالم تشرح له معمّى المكان الذي يعيش فيه. وتزداد أهمية الصور في الأحداث الكبرى، وفي الحروب، كالعدوان الحالي الذي تدور رحاه في غزّة ويستهدف المدنيّين ومدارسهم ومستشفياتهم ومنازلهم وجامعاتهم ودور عبادتهم، وسط صمت رسمي عربيٍّ مُريب. 

لقد لعبَ مصوّرون كانوا موجودين في ساحات المعارك وفي المدن والبلدات التي تعرّضت للقصف دوراً استثنائياً في صناعة الرأي العام، بحسب مناطق العدوان. وما يميّز عصرنا عن العصور السابقة هو أنَّ الجميع يمكن أن يُصبحوا مصوّرين ولو لم يقصدوا ذلك، فالصور لم تعد تأتي من مصورين بعينهم أو مكلفين بمهمات توفدهم صحفهم ومؤسساتهم إلى مسرح الأحداث فحسب، بل تجيء أيضاً من كلِّ من يمتلك هاتفاً ذكياً، ذلك أنَّ التكنولوجيا المتجلّية في هذا الهاتف أتاحت التصوير للجميع وحولتهم إلى مصادر محتملة.

ويمكن أن تشقّ صورةٌ يلتقطها إنسان عادي طريقها إلى آخرين في أنحاء العالم عبر الحدود محطمة الرقابة وسياسات النشر. إلّا أنّ لكل طرف جمهوره من المصوّرين، ما يحوّل الأمر إلى صراع بين جيوش الصور للاستحواذ على الرأي العام، وفي هذا الصراع انتصر جيش صور غزّة، رغم الدعاية المنظمة والرقابة الواضحة الممارسة، كما تُثبت المظاهرات التي تنطلق في العالم داعية إلى وقف هذا العدوان الهمجي المدمّر. 

تحتاج الصور دوماً إلى سياق يوضّح تاريخ الحدث وأسبابه

كانت أول حرب لعبت فيها الصور دوراً هاماً هي الحرب الأهلية الأميركية التي عدّها مؤرخو التصوير الفوتوغرافي أوّل حرب صُوّرت على نحوٍ منظّم ومستمر. وتقول الباحثة كاتيا مولافني إنَّ الحرب الأهلية الأميركية هي مهد ولادة صور الحرب، غير أنَّ الجنود كانوا يُصوَّرون في بدلاتهم العسكرية قبل الذهاب إلى المعركة وتُرسل الصور إلى عائلاتهم كي تحتفظ بها كتذكار.

اختلف الأمر لاحقاً، وانخرط مصوّرون في ساحات الوغى والتقطوا صوراً لعبت دوراً جوهرياً في تنمية الوعي المضاد للحرب، عن طريق تصوير الوحشية والدمار والعنف المنفلت من عقاله في فيتنام وأمكنة أخرى. وكانت الرقابة موجودة على الدوام، وخاصّة في الحربين العالميتين الأولى والثانية. مع القفزة التكنولوجية الهائلة وانتشار الهاتف النقال بدأت تتسرب حقائق كثيرة عن الحروب ومن داخل السجون ومعسكرات التعذيب عززت الوعي المناهض للعنف.

ثمّة تواشج بين التطوّر التكنولوجي لأدوات الحرب وأدوات تصويرها كما يرى بعض الباحثين، وكلمة مذهل قد لا تكفي للتعبير عن زخم هذا التطوّر. ويخدم التصوير الفوتوغرافي أجندات مختلفة، قد تكون دعائية صرفة، كالصور التي تستعرض أنواع أسلحة الفتك والقتل، وهذا يتم في معارض الأسلحة والمناورات العسكرية الخاصة بدولة واحدة أو بأحلاف تكون داخلة فيها حيث تستعرض الدول عضلاتها العسكرية لخدمة هدف معين. وهناك صور تُلتقط أثناء المعركة حين يصيب صاروخ هدفه ويُلحق الدمار به حيث نرى الّلهب والدخان، لكننا لا نرى القتلى بل نعرف عنهم من التعليقات المرافقة للصورة، ذلك أنَّ المصورين كانوا يركزون على صورة إصابة الهدف والانفجار ويغفلون تصوير الضحايا، كما حدث في حرب الخليج.

كما يقوم المقاتلون أنفسهم بالتصوير من قلب المعركة وتصل معظم هذه الصور إلينا على الفور وتغمرنا بأعدادها الهائلة وتحوّلنا إلى متفرجين مناصرين لأحد طرفي الصراع، إلّا أن هذا التصوير قد يكون متلاعباً به ويغيّب الضحايا الحقيقيين للحرب. 

وهناك مصوّرون مستقلّون يتطوّعون كي يصوّروا المعارك في سياقها، مقدمين تأريخاً بصرياً للدمار وللضحايا وهؤلاء يجمعون بين الرؤية الفنية والرؤية الإنسانية العميقة، ويهدفون من وراء صورهم إلى جعلنا نرى الحرب في سياقها الحقيقي وما تفعله بالناس.

غيّر التصوير نظرتنا للأحداث وخلخل أنظمة الرقابة والتلاعب

ينبغي أن نشير هنا إلى التطوّر الذي أتاح للجميع أن يصبحوا مصوّرين وبدأ هذا بالكاميرا اليدوية الصغيرة مقاس 35 ملم، التي لعب اختراعها في 1913 دوراً انقلابياً في تصوير الأحداث وخاصّة الحروب. ذلك أن اختراع هذه الكاميرا لم يغيّر أدوات التصوير فحسب، بل غيّر كذلك الطريقة التي يعمل بها العالَم، كما يقول الباحث الأمريكي دانييل أونيل، فما قدّمه المخترع الألماني أوسكار بارناك هو أنه جعل آلة التصوير محمولة. وهو أمر حقّق قفزة هائلة في مجال التصوير الفوتوغرافي الذي كان يتم عن طريق كاميرا الألواح الزجاجية الضخمة والثابتة والتي كانت عاجزة عن التصوير الميداني. 

أشار أونيل إلى أنَّ المخترع والمصوّر الألماني أوسكار بارناك جعل التاريخ مرئياً في شكل صور منذ عام 1913. إن ما قدّمه بارناك هو آلة تصوير بسيطة سهلة الاستعمال يمكن التصوير بها من قطار أو سيارة أو عن سطح بنايةـ وتمكّنت من تغيير العقول والإطاحة بالأنظمة، وأصبحت هذه الكاميرا مقاس 35 ملم أول كاميرا لايكا Leica في 1924.

إن الاختراع الآخر المذهل الذي يلعب الآن دوراً خارقاً للمألوف في مجال تغطية الحروب هو الهاتف النقّال الذي جعل التصوير مُشاعاً وغيّر نظرتنا للأحداث وخلخل أنظمة الرقابة والتلاعب. يتوضح هنا الدور الإيجابي للتكنولوجيا الرقمية، غير أن هذه التكنولوجيا الرقمية مخيفة ومشوِّشة، رغم نظرة الأمم المتحدة التفاؤلية إليها، وقد سبّبت تشوشاً لدى كثيرين. والسبب هو التدفّق الغزير للصور وتنوّع مصادرها، ما جعل البعض يرون أنَّ الحقيقة تضيع في هذا المد ويتم التلاعب بالصور الرقمية في معركة لتشويه الحقيقة والتشكيك بصحة ما يحدث، وأن الرقابة تطورت ولم تعد تكتفي بالحذف والتلاعب، بل صارت تعاود توظيف الصور خارج سياقها ولهذا تحتاج الصور دوماً إلى سياق يوضح تاريخ الحدث وأسبابه.

إنَّ منظر بناء أو مستشفى مدمّر في أي مكان في العالم سيثير غضبنا ويقوّي من موقفنا الرافض للحروب والعدوان، إلا أن هذا الرفض سيتعمّق إنسانياً ويُصْقل ويكتسب أبعاداً جديدة حين نفهم حقيقة ما يجري، وأنَّ هناك استعماراً استيطانياً يستولي على أراضي الغير ويقوم باستئصالهم. ولهذا يجب أن تقودنا الصور إلى أن نبحث عن سياقها، ونعرف لماذا اغتيل المصوّرون ودُمرت المستشفيات والجامعات والمدارس والكنائس والمساجد والمنازل والمتنزهات والحدائق العامة والمتاحف، وأن نعرف أيضاً أن الصور تروي قصة، كما تروي الصور القادمة من غزّة قصة اقتلاع شعب تمهيداً لنفيه إلى الصحراء.


* شاعر ومترجم سوري مقيم في الولايات المتحدة

المساهمون