عن الحسد

24 مارس 2023
(مقطع من لوحة "باعة البطّيخ" للفنان العراقي حافظ الدروبي)
+ الخط -

في قصيدته "أغارُ من نسمة الجنوب" التي غنّتها أم كلثوم بلحن رياض السنباطي، مزَج الشاعر المصري أحمد رامي بين العواطف التي تنتاب المُحِبّ تجاه مَن يعتقد أنّهم ينافسونه في الحب: فالغيرة والحسَد والغبطة تجتمع لديه للتعبير عن هذه الحالة التي يشعر بها تجاه حبيبته، وقال بعد المطلع إنّه يحسد الشمس ويغبط الطير، وكلّ تلك العبارات تُستخدم في محاولة من الشاعر للتعبير عن أنّ الحبّ يحسّن صورة العالَم والطبيعة، بحيث يتمكّن البشر من رؤية الأشياء والمخلوقات في صورة الحبيبة.

هذا في القصيدة، غير أنّ الواقع لا يزال مرشَّحاً لتأثير المعاني الأُخرى، المعبّأة بالأحقاد والرغبات بزوال الآخرين من الطريق، كما يُسجّل ذلك تاريخ الحكايات الذي يقول: "إنّ العالم يدور وهو ينفث الغيرة والحسد". ("الحسد والإغريق" لبيتر والكوت، "المركز القومي"، 1998).

لم تهتمّ الثقافة الرسمية العربية بدراسة موضوع الحسد
 

واللافت أنّ الثقافة الشعبية العربية تمتلئ بكلّ أشكال التعبير عن الحسد، وأضراره، ومساوئه، والوقاية منه. يمكن لهذه الثقافة أن تمضي بعيداً في الخيال فتخترع عيناً خاصّة تمتلك قوّة خارقة قادرة على اللعب بأقدار الناس، أو بمصائرهم. ولهذا يضعون تعاويذ للحماية من آثارها القاتلة، ومن ضمنها عبارات علنية تتصدّر واجهات باصات النقل العام في بلادنا، وخلفيات الجرّارات الزراعية، وشاحنات نقل الخضار، مثل "عين الحاسد تبلى بالعمى". وثمّة من يؤمِن بأنّ بوسع حذاء طفل صغير أن يوقف التأثير الضارّ للحسد، أو يبطل مفعوله، وهي فكرة مدهشة؛ إذ تَعتبر أنّ البراءة وحدها تتحدّى القلوب الحاقدة.
 
يزعم الأغنياء أنّ الفقراء يفكّرون في انتزاع المُلكيات الصناعية أو الزراعية منهم، بسبب الحسد، لا بسبب السعي للعدالة الاجتماعية، بينما لا تتورّع الحكايات، أو الأغاني، أو الأفلام الرومانسية، أو قصص الغرام، عن القول بأنّ الأغنياء يحسدون الفقراء على عافيتهم وسعادتهم، وراحة بالِهم من تعب وشقاء الجَري وراء المال والشركات، أو الأراضي والممتلكات. على أنّ أخطر أنواع الحسد هو حسدُ الكتّاب للكتّاب، وبعض هذا الحسد قد ينفجر عنفاً يتجلّى في وشاية كاتب بكاتب آخر، أو في تشويه أفكاره، أو في السعي لإدانته لدى المؤسَّسة الدينية، أو النظام الحاكم.

وعلى الرغم من أنّ الثقافة الرسمية العربية لا تُعنى بدراسة موضوع "الحسد"، فإنّ لدى المُعجم عبارة وحيدة تترجم الوضع العربي: "إنّنا في موقف لا نُحسد عليه"؛ للتعبير عن حالة الانغلاق الحياتي شبه التامّ الذي تعيشه الشعوب العربية. وهنا فقط يمكنك أن تكون حسوداً دون تبعات أخلاقية، على الغرار الذي رسمه أحمد رامي في قصيدته؛ أي أن تحسد أو تغار من تلك الشعوب التي تنعم بالديمقراطية، ويسود في بلادها القانون، وتتحقّق العدالة الاجتماعية والسياسية.

في رواية الكوبي ليوناردو بادورا "الرجل الذي كان يحبُّ الكلاب"، يقول بوخارين (وهو من رفاق لينين في ثورة أكتوبر عام 1917): "إنّ واحدة من صفات ستالين هي الحسد. لقد حفر حتّى من تحت قدمَي لينين"، وقد صبغت تلك الصفة تاريخ النصف الأوّل من القرن العشرين، وصفحات رواية بادورا بالدماء. 


* روائي من سورية

موقف
التحديثات الحية
المساهمون