عمّار الشريعي.. موسيقى مُرافقة لعالم يتفتّت

16 ابريل 2022
عمّار الشريعي (العربي الجديد)
+ الخط -

تستعيد هذه الزاوية شخصية ثقافية عربية أو عالمية بمناسبة ذكرى ميلادها، في محاولة لإضاءة جوانب أخرى من شخصيتها أو من عوالمها الإبداعية. يصادف اليوم السادس عشر من نيسان/ إبريل ذكرى ميلاد المؤلف الموسيقي المصري عمّار الشريعي (1948 - 2012).


دخول مقدّمة "رأفت الهجان"

حين بدأ عمّار الشريعي مشواره الفني في النصف الثاني من ستينيات القرن الماضي، كان المشهد الموسيقي في مصر مُشبَعاً، بأعمال قامات فنية بلغت درجة النضج وأمسكت بكل مفردات تجربتها، وباتت متمكّنة من أسرار إطراب الأذن العربية. في مشهد كهذا، هل يمكن لفتى في العشرينيات من عمره أن يفكّر مجرّد التفكير في أخذ موقع؟ موقعٍ بين محمد عبد الوهاب، وبليغ حمدي، ورياض السنباطي، ومحمد الموجي وقامات أخرى.

التقط الفتى الكفيفُ فجوة في هذا الزخم. لقد ذهبت جهود معظم هؤلاء إلى الأغنية من دون بقية الأشكال الموسيقية، فانكبّ على إتقان صنعة التأليف الموسيقي؛ وانهمك في فهم كيف تُصنع الموسيقى باعتبارها عملاً مستقلاً بذاته، تؤلّفُ على هذا الأساس ويُستمع إليها من هذا المنظور.

لم يكن يعني ذلك رغبة في التعالي، فلم يشغله هذا الطموح عن تلحين الأغاني، بل إنه جلب روح التلحين الطرَبية إلى المؤلفات الموسيقية البحتة، جاعلاً منها منطقةً قريبة من ذائقة المستمع العربي، وسيجد في الموسيقى التصويرية فضاء للذهاب بعيداً في إشباع الأذن العربية. ولم يكن من السهل أن يضرب أحدهم موعداً - في مكان جديد - مع الأذن التي تعوّدت أن يطربها العمالقة.

ولا الليل يحوشك يا نور

وضع عمّار الشريعي موسيقى أكثر من 250 عملاً بين مسلسلات وأفلام ومسرحيات. مدوّنة ضخمة بدأت من المسلسلات الإذاعية، والتي كان لها حضور في الوجدان الشعبي قبل أن يبدأ احتكار التلفزيون لمواهب التأليف والتمثيل، وكذلك التلحين، فغادر الشريعي منطقته الأولى، ليبدأ في الوصول إلى آفاق أوسع.

علينا أن نتخيّل عمّار الشريعي ما قبل لحن "رأفت الهجان"، كي نفهم إعجاب الناس بالتلوينات الموسيقية التي صاحبت مسلسلات مثل "الأيام" و"لا" و"زينب والعرش". كانت الموسيقى تذوب في المَشاهد وتخلق حالة من الاندماج بين المشاهدين والعوالم التخييلية التي تقدّم لهم.

دون تلك اللمسة السحرية التي كان يضعها، كيف كانت ستكون علاقتنا بأعمال مثل "دموع في عيون وقحة"، و"ليلة القبض على فاطمة"، و"الشهد والدموع"، في الدراما، و"حب في الزنزانة" و"البريء" في السينما؟

على مقاس كل عمل من هذه الأعمال يأتي لحن عمّار الشريعي، يعرف ما يحتاجه الإقناع بأجواء الحارة المصرية (أرابيسك..)، وما تحتاجه تشييدات التخييل التاريخي (رجل الأقدار)، وما ينبغي أن يتوفّر مع المادة الهزلية (فطوطة)، أو مع لحظات التشويق في الأعمال البوليسية والجاسوسية (دموع في عيون وقحة).

ضخامة ما أنجزه عمّار الشريعي كموسيقى مرافقة للأعمال الدرامية والسينمائية يذكّرني بالأغنية (كلمات سيّد حجاب) التي لحّنها كمقدّمة لمسلسل "العملاق" عن سيرة عباد محمود العقاد:
"ولا النيل تصدّه الصخور
ولا الليل يحوشك يا نور
ولا يستحق الحياة إلا اللي قلبه جسور".


دموع صاحبة الجلالة

إذا كانت الدراما والسينما البيتَ الذي وُلدت فيه معظم ألحان عمّار الشريعي، إلا أنها كانت تستطيع أن تحلّق بعيداً، بل إن ارتحالها في فضاءات أخرى كان يجدّد فتنتها وعلاقتها بنا.

أصدر المؤلف الموسيقي المصري العديد من أشرطة الكاسيت. بات من الممكن أن نسمع موسيقى "رأفت الهجان" خارج مواعيد الحلقات التي بُثّت أواخر الثمانينيات، وفي شريط الكاسيت سنتعرّف على تنويعات جمة على اللحن الواحد، كما توجد مقطوعات أخرى لم تشدّ الانتباه إليها داخل المسلسل لكنها لا تقلّ ألقاً.

مع شريط مقطوعات "رأفت الهجان"، رافقني كثيراً في قراءاتي وتأملاتي شريط مقطوعات مسلسل "دموع صاحبة الجلالة"، ولا تزال تسكنني تلك الموسيقى، كما لحظات الاستماع إليها منذ عشرين عاماً على الأقل. وفيما كانت علاقتي مع موسيقى "رأفت الهجان" قد رتّبتها علاقتي مع المسلسل وشخصيته الرئيسية، كانت علاقتي مع موسيقى "دموع صاحبة الجلالة" مستقلة عن كل تأثير، بل إن الموسيقى هي التي دفعتني لاحقاً لمشاهدة المسلسل.

لم يقطع هذه العلاقة مع أشرطة الكاسيت إلا بروز جناح جديد تُحلّق به موسيقى عمّار الشريعي، وهو موقع يوتيوب، وقد أتاحَ مئات المقطوعات كي نكتشفها. بعضُها سَكن مواقع عميقة في نفسي كموسيقى "هالة والدراويش" التي أجدّد بها نفسي من حين إلى آخر.

هناك ما يغيب في يوتيوب، فأعثر عليه في "منتدى سماعي" أو في صفحات فيسبوكية وفية لذكرى عمّار الشريعي، وفي السنوات الأخيرة قدّمت صفحة "نوتة" طعماً جديداً للمؤلف الموسيقي المصري حين نفضت الغبار عن تسجيلات بصوته، مع تحسين جودتها، فجدّدت حضور أغان كادت تُنسى مثل "حبيبتي من ضفايرها طل القمر"، و"بتسأل يا حبيبي بحبّك قد إيه"، و"بحلم ببلاد بعيدة"...

طير الحق

أيامَ "25 يناير"، كان عمّار الشريعي واضحاً في تبنّيه للثورة، دعا الرئيس حسني مبارك على الهواء للتنحّي، وساند الشباب في ميدان التحرير رغم صعوباته الصحية. في تلك الأيام، برز المعدن الأصيل لفنان لم تلوّثه حسابات الحفاظ على الامتيازات. لم ينتظر الحصان الرابح كي يحدّد مواقعه.

طوال مشواره، كان عمار الشريعي قريباً من هموم الناس، وقد يوحي اشتغاله المكثّف على الموسيقى الصامتة بأنه ترك الكلمة المباشرة جانباً، لكن الموسيقار المصري كان لا يتوانى عن إطلاق كلمة الحق في أعماله متى تسنّى له ذلك، وقد أظهرت المساحة التي وفّرها له فيلم "البريء" قدرته على تلحين الأغنية الملتزمة، كما في "محبوس يا طير الحق" التي أنجزها بأبجدية موسيقية ضيقة مثل عالم المساجين الذي يصوّره الفيلم، وأيضاً في أغنية "يا قبضتي دقي على الجدار" والتي اقتطعها الرقيب مثل بعض المشاهد، فظلّت ممنوعة على الجمهور حتى أفرج عنها يوتيوب منذ سنوات.


توت توت، قطر زغنطوط

يمكننا أن نترك المؤلف الموسيقيّ جانباً، وننظر إلى عمار الشريعي الملحّن وحده، بما أن الأعمال التلفزيونية والسينمائية كانت فضاء أيضاً للأغنية، وقد وجد لدى صديقه سيّد حجاب، كما في نصوص صلاح جاهين وعمر بطيشة وعبد الرحمن الأبنودي وغيرهم، مادة لتقديم أطباق فنية شهية أخرى.

في هذه التجارب، كانت تبرز موهبة خاصة لدى المؤلف الموسيقي المصري، فقد قدّم ألحاناً على مقاس أصوات غير متخصّصة في الأداء الغنائي، وكانت أقرب هذه التجارب إلى الناس تجربته في مسلسل "أبنائي الأعزاء شكراً" حين قدّم لـ عبد المنعم مدبولي (في دور بابا عبدو) أغانيَ تعيش إلى اليوم في الذاكرة الشعبية.

قدّم أيضاً أغاني فيلم "الأراجوز" التي أداها عمر الشريف دون الحاجة إلى تقنيات غناء خاصة، فكان كأنه يغني ويتكلّم في نفس الوقت. ولحّن أيضاً مجموعة أغان مبتكرة متعاوناً مع أستاذه وصديقه كمال الطويل أداها كل من سعاد حسني (على تمرّسها المعروف والفطري بالغناء) وأحمد زكي في سلسلة "هي وهو". حتى أمينة رزق قدّم لها لحناً في مسلسل "وقال البحر".

كانْ فيه فراشة

لم تُفارقه طفولته رغم مرور السنين. ذلك ما يبدو واضحاً كلما دعي عمّار الشريعي لتلحين أغنية أطفال. كما يبدو واضحاً في ملامحه ومرحه الدائم.

في رحلة تقديم أغنية جميلةٍ ودافئة للأطفال، لازمه صديقه الشاعر سيّد حجاب. كانت الكلمة البسيطة في حاجة إلى لحن بسيط، وإلى عناية خاصة بما يمكن أن يردّده الأطفال وما يدغدغ أعماقهم.

اختلق الثنائي "جنة أطفال" من خلال الأغاني، في ذلك الزمن الذي بدأ يتداعى فيه كل شيء في مصر تحت وقع سياسات الانفتاح الاقتصادي. لا نزال إلى اليوم نفرّ إلى تلك الجنة الصغيرة، ونتساءل ماذا يُقدّم الملحّنون للأطفال اليوم؟

استند الشريعي في هذه التجربة إلى أصوات شابة مثل عفاف راضي وإيمان الطوخي، كما بحث عن الطفولة التي تسكن روح نيللي، وهو ما يتجلّى في أغنية مثل "كان فيه فراشة زغنططة"، حيث يقترح بصوتها عالماً لا تسكنه إلا الطفولة والأنوثة والمرح.

أسئلة ملهاش ردود

ظلت الأغنية هي الشكل الموسيقي المهيمن في الثقافة العربية، ولولا فسحة الدراما والسينما لاستعصى على عمّار الشريعي أن يوصل صوته. واقع هيمنة الأغنية أفرز هيمنة المغنّي وفردانيته في بناء العمل الفني حوله، وقد حاول الشريعي أن يخلخل هذا الثبات من حوله.

في الثمانينيات، أطلق فرقة "الأصدقاء"، محاولاً أن يقدّم توليفة مرئية للجهد المشترك في إنجاز أغنية. تجربة كانت جزءاً من حراك فنّي جديد كان يتبلور في مصر، يبحث عن قوالب مختلفة لأفكار تتحرّك خارج الثيمات المكرّسة للأغاني العاطفية والوطنية.

من أعمال "الأصدقاء"، لا تزال أغنية "الحدود" حاضرة إلى اليوم، مقدّمةً أسئلة عميقة حول العلاقة بالوطن، أسئلة ظلت - كما تقول عبارة من الأغنية - بدون إجابات، ومنها أن العمل الجماعي قصير النفس في بيئتنا العربية، فقد تفرّق "الأصدقاء" (حنان ومنى عبد الغني وعلاء عبد الخالق) وواصل عمّار الشريعي طريقه عازفاً منفرداً.

الراية البيضاء

قلّما يحدث أن يُستعاد لحن ذهب إلى أغنية في موسيقى تصويرية، لكن ذلك ما حدث مع لحن أغنية "أكثر من روحي بحبّك" التي قدّمها الشريعي للطيفة العرفاوي، ثم وجد فيها محمد فاضل وأسامة أنور عكاشة تجسيداً لرؤية مسلسلهما "الراية البيضاء".

المفارقة أن المسلسل أبعد ما يكون عن الأجواء العاطفية، حيث يتحدّث عن قضية الفيلات التراثية في الإسكندرية التي بدأت الرأسمالية الطفيلية في دهسها وتحويلها إلى أراض صالحة لبناء العمارات.

كانت نفس الموسيقى قادرة على أن تعبّر بشكل مثالي عن عالمين، عن حالة التدفّق العاطفي مرة، وأن تكون مرثية للإسكندرية مرة أخرى. تلك الجملة الرشيقة في هذا العمل الموسيقي كانت تنم عن خيال ثري، وعن سريرة صافية يمكنها أن تلتقط معاني مجرّدة من الكون وتحوّلها إلى مادة موسيقية.

توليفة "أم كلثوم"

دائماً يُدعى عمّار الشريعي لمهمة دقيقة بدا وكأنه تخصّص فيها، تلك التي تقتضيها العناية الخاصة بالأعمال السينمائية والتلفزيونية القائمة على الموسيقى بشكل أساسي، كحال مسلسل "أم كلثوم" أو فيلم "حليم"، وكذلك الأمر مع آخر أعماله "أهل الهوى" (2012) الذي قدّم سيرة بيرم التونسي ورفيقه سيّد درويش.

تشير المقدمة الموسيقية لمسلسل "أم كلثوم" إلى إتقان الشريعي لهذه اللعبة وحسن إدارتها، لقد أبرز كيف يتشبّع من كل تجربة إلى أن يتمكّن من التعبير بمفرداتها، وفي "أم كلثوم" فعل أكثر من ذلك في أفق لحنيٍّ واحد بين محمد القصبجي ومحمود عبد الوهاب ورياض السنباطي وزكريا أحمد وبليغ حمدي.

كان عمّار الشريعي كلما دعي ليتحدّث عن الفنانين الذين تعلّم منهم، يتناولهم وكأنهم تحف ثمينة من أثاث بيت الأسرة القديم. كان يستند إلى هذا الشغف كي يهضم أجمل ما فيهم، وقد قدّم تجارب لافتة في إعادة توزيع أعمالهم وفق ما تحتاجه الأذن المعاصرة.

وقبل تجربة التوزيعات هذه، كان هناك مختبر تشرّب الشريعي داخله هذا التراث، وهو برنامجه الإذاعي "غواص في بحر النغم"، وفيه أظهر براعة في الإمساك بدرر العبقرية الموسيقية العربية، كما أعطى نموذجاً لطيفاً عن آداب السماع، حيث تلتقي المتعة الصادقة بالمعرفة الطموحة.

الموسيقى التصويرية لـ"رأفت الهجان"

يطرَب عمّار الشريعي إلى الجملة الموسيقية الصافية، وهي غايته. هي أيضاً وسيلته لإعادة ترتيب العالم من حوله، حيث الضجيج والنشاز والكلام الفارغ.

إذا استعملنا معجم المابعديات الرائج منذ عقود، فعمّار الشريعي هو ابنُ مرحلة ما بعد "الزمن الجميل". لعلّه عبّر في موسيقاه عن هذا الشعور بترك الأجمل والأنبل وراءنا. لعله كان يعتقد أن تقديم فنّ مفارق لزمن اقتحم فيه التلوثّ، الموسيقي والقيمي، حياة الناس عنوة، هو شكل من أشكال مقاومة الضياع النفسي الذي بدأ ينتشر كوباء في المجتمعات العربية.

في هذه المدن الملوّثة، ما يُعزّينا أن بضعة فنانين لا يزالون يلوّنون العالم من حولنا. هنالك من لا يزال يقول لنا إن داخل الإنسان العربي يوجد مقدار من الجمال الداخلي لا يمكن تدميره، وذلك معنى عميقٌ توصله الموسيقى التصويرية لـ"رأفت الهجان"، فأبعد من معاني البطولة والوطنية التي علقت بها يوجد ذلك الشعور بالوقوع على النقاوة والصفاء في عمق الكائن البشري.

ماذا تفعل الموسيقى في حياتنا ما لم تقدّم خدمة كهذه؟ ما لم تقدّم لمجتمعها بضعة إشباعات نفسية أساسية؟ ما زلنا في حاجة إلى من يلوّن العالم من حولنا، بالدفء والبساطة وفيض الموهبة، ولذلك ستظلّ موسيقى عمّار الشريعي تسكننا. تحتاج حياتنا إلى موسيقى تصويرية ترافقها.