"الأشجار الأُولى"، رواية الكاتب الفلسطيني عمر أبو سمرة (1999)، ابن حيفا الذي يعيش بين ألمانيا وإسطنبول، تُفاجئ على طول الخطّ. فروايته الأُولى ليست مبتدئة. ليست تمريناً أوّل. إنّها عملٌ متمرّس، بل هي مغامرة بكلّ معنى الكلمة. لا بدّ أن نلاحظ ونحن نقرأها أنّها تُواصل تجربة أسلوبية لا تتأتّى إلّا بقدر من الدراية والتجربة. إنّنا نقرأ نصّاً لا يُجازف بوقفات صعبة، بل يلتفّ على اللحظة الروائية، قبل أن تصل إلى حال من الضيق أو التراخي، ليسترسل في مكانٍ تالٍ، ويعيد إلى المقطع نَفَسَه، ويبسط له مساحةً جديدة لا يتقطّع بها النص، وإنّما يستمر في سريانه ويتلوّن مجدَّداً، ويعاود روحه.
الرواية الفلسطينية بمعنى الكلمة مفروشة على خارطة روائية، بأكثر من لغة، تتلاحق أساليبها وأسماء كتّابها وأعمالهم، ولا بدّ أنّها وجدت أسلوبها على هذا الطريق. فهذا الأسلوب الجديد على روايتنا لا يشبه ولا يردّ إلى أيّ من آثارها. فهو، بدون شك، لم يصل منها، لا بدّ أنّ شيئاً من المكتبة الروائية العالمية يؤدّي إليها. إذا عدنا إلى أسماء نجدها في طيّات الرواية، بروست وجويس كلاهما، وبخاصة الأوّل، يستمرّ ذكره في فصولها، فألبرتين تصل إلى الرواية من مجلّدات رواية بروست الشهيرة "بحثاً عن الزمن المفقود".
"الأشجار الأُولى" (هاشيت أنطوان/ نوفل، 2023) ليست إذن رواية مألوفة على الإطلاق، أعني أنّنا هنا لسنا أمام التفصيل المعروف للعمل الروائي. لسنا أمام حبكة درامية لها عقدتها وتضاعيفها، لسنا أمام شخصيات تتفارق وتتواصل وتتصارع، وأحداث نامية متلاحقة. رواية عمر أبو سمرة يمكننا أن نطلق عليها ما يقترب من مونولوغ طويل مسترسل يغطّي الرواية كلّها، بصفحاتها المئة والعشرين.
أسلوب جديد على روايتنا لا يشبه ولا يردّ إلى أيّ من آثارها
هو، إذاً، مونولوغ لا نتعرّف إلى صاحبه، بل نخلط فيه الرواة. الراوي ليس معلوماً ولا واضحاً بالكامل، بل هو ليس واحداً. هو أوّلاً حفيد ناديا الفاعور، زوجة وعشيقة جدّ الراوي. وبين الاثنين ما يمكن أن نعتبره بوحاً يمرّ على لحظات منتقاة، تلابسها ملاحظات وحوادث وردود. بيد أنَّ العلاقة المُلتبسة بين الاثنين وسيرتيهما، تُتلى بصوت الحفيد الذي لا يلبث أن يتّصل، من بعيد أو قريب، بصوت الجدّة في حين، وصوت الجدّ في حين، مع أصواتٍ أُخرى تصل من الخارج، في سياقات تتوالى فيها الأصوات وتتداخل، وفي الحقيقة تكاد تندمج.
الجدّ الذي يحلو له أن يضع قدمه في فم زوجته ويخونها في فناء بيتها، ويلحق الخائن الأكبر إلى بلغراد، وهذا هو اسم صاحب "أوسلو". لكنَّ ناديا الفاعور، الشاعرة الرديئة، قارئة بروست، جاءت إلى الجدّ من بيت فاطمة الغول، التي نسمع كلامها هي الأُخرى، وهي قوّادة، فيما أنَّ ناديا هي نوع من بغي عذراء.
هذا هو السياق، لكنّنا لا نلبث أن ننتبه إلى أنّنا أمام سيرة فلسطين في يومها الراهن. حيفا تطلُّ علينا من وراء اللحظة، فزمن الرواية زمنٌ سائل. لعلَّ هذا يفسّر سيولة النص نفسه، الذي ينساب في ليونة واتساق، يقترب فيهما، ليس من السرد الدافئ فحسب، بل من الشعر نفسه، بحيث نكاد نعثر على بضع قصائد مختفية في تلافيف النصّ. الأمر الذي يوحي بأنَّ أبو سمرة ليس بعيداً عن الشعر. نفهم أنّ فلسطين هي بطلة الرواية، أنّها نادية نفسها، وأنّ في المونولوغ الطويل ما هو بثّ فلسطين وبوحها وروحها ورائحتها ونفَسها.
نجد حيفا تتكلّم من وراء الجدّ والجدّة، كما نجد المشكل الفلسطيني الراهن من "أوسلو" إلى زماننا. نجد الجندي اليهودي الذي "قرّر أن يغسل رجليه في بيتنا ويجلب لنا العار". نجد اليهودي الذي "إذا ألقى مخرّب حجر على نافذتكم، فإنّكم تظنون أنَّ يوم القيامة أتى". نفهم أنّ الرواية ليست رواية الجدّة ناديا الفاعور وزوجها عبثاً، وأنّ القصة تتعدّى خيانات الجدّ. فناديا الشاعرة، قارئة بروست، هي من بعيد أو قريب فلسطين التي قتلتها "أوسلو"، فيما أنّ الجد يلحق بالخائن الكبير الذي وقّع "أوسلو" إلى بلغراد. "أوسلو" ليست بالنسبة إلى أبو سمرة سوى خيانة أو أكذوبة، يكفيه لفظها، وتكاد اللفظة نفسها تنعق فوق الصفحة. ناديا فلسطين، والجدّ مثل قادتها ليس مثلاً جيّداً، فالروائي الشاب لا يرضيه هؤلاء، بل لا يرضيه الأدب الذي يتعايش على القصّة، إنّه بالنسبة إليه "يتاجر بقضايا مثل الحنين إلى الوطن، وفلسطين، وبعض الحبّ المستهلك جدّاً".
الروائي الذي يحس غالباً بفرادته واختلافه يُنهي بعظةٍ عن الرواية وموضوعها. في الفقرات الأخيرة من الرواية عودٌ عليها كفنّ وأسلوب. إنهّا بالنسبة إليه، شخصيّاتها بما في ذلك شخصية الراوية، مفبركة، لكنّه يستنتج أنّ الشخصية لا تكون حقيقية إلّا إذا عصت خالِقها. كلامٌ يختم به أبو سمرة عملاً خاصّاً، وربّما يحتاج إلى تمهيدٍ كهذا. هذا ما يلفتنا إلى لغة النصّ التي سبق أن قلنا إنها تُجاور الشعر، وأحياناً تكونه، كما في "عندما تصهل المدن من خلفك، وعندما يفرّ الصباح من المساء، وينكسر الليل فوقك".
* شاعر وروائي من لبنان