يستكمل هذا المقال ما بدأناه في الأسبوعين الماضيين؛ فإذا كنّا قد تناولنا في المقال الأوّل من سلسلة "عمران قطر بعد كأس العالم"، البدائل التي تقود إلى التنمية المستقبلية، ثم انتقلنا عبر المقال الثاني إلى استعراض النقل العمراني ومنطق التحرُّك في المدينة، وبيّنا أنّ فلسفة المدن الجديدة تعتمد على مدى الاستفادة المتحقّقة من الحدث بعد انقضائه، ومدى خدمته للمدينة وليس العكس. فهنا، نعرض للشروط الحضَرية والعمرانية التي اعتمِدت في قطر من أجل تأمين إقامة صحية وآمنة للزوار، الذين من المتوقع أن يصل عددهم إلى قرابة مليوني زائر.
إقامة في فندق عائم
في رحلات عدّة إلى الدول التي سبق لها أن نظّمت كأس العالم مثل: جنوب أفريقيا (2010)، والبرازيل (2014) وروسيا (2018)، اكتشفنا أنّ أحد أهم الأعباء للدولة المُضيفة هو إسكانُ القادمين من كلّ أنحاء العالم لمُشاهدة المباريات. إذ يبدو للوهلة الأُولى أن بناء الفنادق بدرجاتها المُختلفة هو الحلّ الواضح والمباشر. هنا نتوقّف أمام إشكالية مُربكة، إذا كنتَ تنظّم كأس العالم في دولة صغيرة مثل قطر، لا يحضر إليها عدد مؤثّر من السائحين يبرّر بناء كلّ هذه الفنادق ويجعله أمراً ذا جدوى، وخاصة بعد انتهاء البطولة، فما الحل؟
مع انتهاء البطولة تنتقل الفنادق العائمة إلى بلدان أُخرى
تستهلك هذه الفنادق أموالاً، ثم ستتحوّل إلى أماكن للأشباح بعد البطولة، وهذا ما عاينّاه في بعض مدن جنوب أفريقيا. يبدو أن صياغة المشكلة هي المهم الآن، المُشكلة هي كيف تستضيف قرابة مليوني زائر في ظرف ثلاثين يوماً هي مدّة البطولة. وكيف سيتمكّن هؤلاء من الإقامة الآمنة والصحّية وبنفس الوقت المُحمّلة بالذكريات الإيجابية عن البلد وأهلها، وبعد انتهاء البطولة لا تتخلّف أعباء مالية وبيئية ومعمارية على البلد المُضيف؟ هنا يتبلور دور الإبداع، والتفكير الجماعي المُخلِص ودعوة العقول القادرة على طرح الأفكار.
وقد انتهت هذه الرحلة من العصف الذهني إلى أنّ كلّ قادم إلى قطر لحضور فعاليات "كأس العالم - 2022"، سيكون أمامه أربعة سيناريوهات للإقامة المُمتعة والمُجدية اقتصادياً في آن، وهي:
بداية السيناريو الأول تشكّله مجموعة الفنادق متعدّدة النجوم والمستويات، أو منتجعات وسط المدينة ومعظمها مرتبط مع شبكة النقل العام المتّصلة بمواقع الملاعب المُختلفة. وبالانتقال إلى السيناريو الثاني فسنجد الفنادق العائمة، وهي صُمّمت نتيجة الاتفاق مع بعض شركات الفنادق العائمة الدولية، والتي تتحرّك ما بين حوض البحر المتوسط والبحر الكاريبي، لتصل بعد ذلك إلى الدوحة كي تُحدّد لها مواقع بارزة في ميناء الدولة الرئيسي. عند هذا الحدّ سيتمتّع الزائرون بتجربة إقامة مختلفة في فنادقهم العائمة، التي بإمكانهم أيضاً النزول منها للتجوّل في المدينة ومشاهدة المباريات. وفور انتهاء البطولة، سرعان ما تتحرّك هذه الفنادق العائمة إلي مناطق أُخرى، لتعاوِد روتينها بشكلٍ وظيفي ومعتاد.
من قلب الصحراء إلى المدرّج في ساعة
على جانبٍ آخر، بعيد عن الماء هذه المرّة، يُطالعنا السيناريو الثالث والذي يتمثّل بما تُمكنُ تسميته بـ"فنادق المليون نجمة" أو "معسكرات الصحراء"، وقد كان لكاتب هذه السطور شرف اقتراح هذه الفكرة، نتيجة التناقض الجغرافي سريع التحقيق في قطر، حيثُ إنك فعلياً يُمكن أن تنتقل من مركز المدينة إلى عمق الصحراء في زمن ساعة إلى ساعة وخمس عشرة دقيقة. عليه، تصبحُ "فنادق المليون نجمة" بالنسبة لمحبّي الصحراء والتخييم تعبيراً عن بساطة الحياة فيها. ولكنك تنظر للسماء في وسط الصحراء فتشاهد النجوم تتلألأ، لتشعر بعدها بنشوة تتجاوز النشوة "الريتز- كارلتونية". هذه المعسكرات مصنوعة من خيام وتأثّثت بتقاليد بدوية، ومجهّزة بكلّ الخدمات ومدعّمة من قبل أجهزة الدفاع المدني والإسعاف. كما أنّ المُقيمين بها سينتقلون من قلب الصحراء إلى مدرّج المباراة في ساعة واحدة فقط ثم يعودون ليلاً بنفس الطريقة.
بعض أماكن الإقامة هي نقطة التقاء بين المدينة والصحراء
إلى جانب ما تقدّم هناك السيناريو الرابع، ألا وهو "برنامج سفراء قطر" الذي يضمّ مواطنين ومقيمين يقدّمون واجب الضيافة لزوّار البلد. ويستغل هذا البرنامج الثروة العقارية في قطر من شقق، وبيوت مستقلّة، ومجمّعات سكنية، ويُتيح التعرّف عليها عبر موقع إلكتروني يتقدّم إليه صاحب أو حتى مستأجر العقار، عارضاً إتاحة حُجرة أو أكثر لاستضافة ضيوف الدولة في البطولة. وقد حقّق هذا البرنامج نجاحاً منقطعَ النظير، حيثُ تتزايد أعداد المتسجّلين لاستقبال أفراد أو عائلات، ومع كامل المُراعاة للتقاليد والعادات والخصوصية، والمراجعة الكاملة للمستضيف ولوحدة الضيافة المقترحة.
أهم ما نلاحظه في السيناريوهات الأربعة أن ثلاثة منها تنتهي تماماً بعد البطولة، دون أن تمثّل أي عبءٍ مالي أو بيئي أو عمراني على الدولة المنظِّمة. تتحرّك البواخر عائدة صوب عمق البحر، وتُزال الخيام وتخزّن للاستفادة منها في مواسم التخييم، كما يعود أهل قطر لحياتهم في بيوتهم بعد توديع الضيوف، ونجاحهم في ترك انطباعات إيجابية لديهم.
بعد عرض هذه السيناريوهات الأربعة، علينا التذكير بأنّ الدول التي عملت على حصار قطر عام 2017، عادت لتتصالح معها، وهنا وافقت قطر بلا شروط على تسيير رحلات يومية، برّية وجوّية وبحريّة، من دول الخليج المجاورة لحضور المباريات ومشاهدة المدينة، ثم العودة للمبيت في فنادق الدول المجاورة. إذن إشكالية كيف توفّر الإقامة الملائمة لقرابة مليونين، تبعاً لتقديرات FIFA، في دولة صغيرة ودون أن تترك أعباء مالية وتداعيات مستقبلية سلبية، تمّت الاستجابة لها بصورة فيها من الاستدامة والإبداع في الوقت عينه.
* معماري وأكاديمي من مصر