تستعيد هذه الزاوية شخصية ثقافية عربية أو عالمية بمناسبة ذكرى ميلادها، في محاولة لإضاءة جوانب أخرى من شخصيتها أو من عوالمها الإبداعية. يصادف اليوم، العشرون من آب/ أغسطس، ذكرى ميلاد المفكّر المصري عصمت سيف الدولة (1923 - 1996).
أن يعود أحدنا اليوم إلى كتابات عصمت سيف الدولة يعني أنه سيعود إلى عدّة عقود إلى الوراء، وسيشعر بغربة المفاهيم والنظريات التي يقرؤها للمفكّر المصري في زمننا. لقد صارت الأفكار غير الأفكار، والمعجم غير المعجم، والأحلام غير الأحلام. يمكن، عبر هذه الكتابات، أن نقيس المسافة التي قطعها العقل الجماعي وهو يعبر الزمن، وأن نقيس أيضاً مزاجيّته وانتقائيّته.
لقد كان سيف الدولة، في عقود الستينيات والسبعينيات، ملء أسماع الأمة. كان كمن تهيّأت له الأدوات والظروف لصياغة ما يعتمل في النفوس بمفردات الفكر. من أجل هذا الهدف، اجترح لنفسه أسلوب كتابة مبسّطاً وعميقاً جعله قناة توصل القارئ العربي إلى حاجياته من الفكر العالمي، وهو يفعل ذلك كان يقولب عقولاً كثيراً لم تنجح لاحقاً أن تتجاوز طروحات سيف الدولة.
نحن في نهاية الخمسينيات، والفتى قد أتمّ تحصيله المعرفي بين العلوم القانونية والاقتصاد السياسي من القاهرة إلى باريس، وكأنه حدس تلك "الفريضة الغائبة" التي لا يؤدّيها المثقفون على أكمل وجه؛ سبك الأحلام الجماعية في مقولات جامعة، فكانت كتاباته الأولى عن الأسس (أسس الاشتراكية العربية، وأسس الوحدة العربية في 1965)، ثم تلاها بكتابات "الطريق إلى الوحدة العربية" (1966) فـ"الطريق إلى الاشتراكية العربية" (1967).
حتى إذا خلخلت هزيمة 1967 الأرض تحت أقدامه زاد تثبّثاً بمشروعه، بل أكّد أنه "أصبح مُسلّماً أن مواجهة المستقبل العربي بغير نظريةٍ حماقةٌ خرقاء"، مؤكّداً أن مشاريع الأمة العربية ظلت تتخبّط في "منهج التجربة والخطأ"، ومن ثمّ يبشّر سيف الدولة بكون النظرية هي من "يُعفي من أخطاء التجربة"، وقال أيضاً: "لقد كنا صادفنا النجاح الذي تصادفه التجربة أحياناً فأغرانا نجاحنا العرضي بالإصرار على عدم الالتزام العقائدي".
بعد أعوام سيتاح للمفكّر المصري أن يكتب سلسلة "نظرية الثورة العربية" في سبعة كتب، بعضها إعادة تطوير لأفكار نشرها سابقاً مع تلقيمها بتجارب التاريخ وخبراته، وبعضها الآخر كان حصيلة تطوير مستمرّ لأدواته المعرفية ومنهجياته. حين اكتمل مشروع سيف الدولة (1972)، ومن عبث الأقدار، كانت تلك الصلة السحرية التي تربطه بالقرّاء قد انقطعت.
صحيح أن سيف الدولة لم يندمج ضمن منظومة القرار زمن عبد الناصر، ولكنه اعتبر تعبيرة عفوية جرت مباركتها. لكن، حين وصل أنور السادات إلى الحكم بدا أن قوانين الجاذبية قد تغيّرت، انطفأت الأضواء من حول المفكّر، وأُشعر بأن ما يقدّمه زائد عن الحاجة، وحده الالتفاف الشبابي كان يدفع به إلى الأمام.
ضمن محاولات تحجيم سيف الدولة، أُلقي القبض عليه بتهمة خطيرة وطريفة: "التخطيط لإنشاء تنظيم قومي هدفه قلب أنظمة الحكم في الوطن العربي"، وهو تنظيم لم يجد له المحققون تسمية فلقّبوه بـ"تنظيم عصمت سيف الدولة". تلك التهمة ربما تفسّر أسباب الانطفاء التدريجي لنجومية سيف الدولة، ووضعية النبذ لاحقاً، كان فكره يخاصم بشكل ما كل التوجّهات من حوله، فلم يبق من حوله داعمون، وهو شكل من الإخلاص الفكري الذي أخذ يدفع ثمنه بشكل متسارع.
لكن، أليس ذلك هو الدور الأساسي للمفكر؟ أن يقف على مسافة من السلطة مهما كانت. أن يناهض الحس المشترك ولا يهتم لغير المنطق الداخلي لفكره. لقد واصل سيف الدولة - في تلك السبعينيات الملتهبة - الاشتغالَ على شبكة مفاهيم ينفضّ الناس من حولها بإيعازات من الدولة. الثورة، الوحدة، الاشتراكية، الطليعة وغيرها من المفاهيم التي باتت ممجوجة منذ أن أطلق النظام غول ثقافة السوق على الناس.
بعد "نظرية الثورة العربية"، بدا سيف الدولة كنبيّ فرغ من رسالته، بدت أعماله اللاحقة أقرب إلى تأمّلات غير منتظمة حول الواقع، وإن كان من الجدير الإشارة إلى أصالة بعض مؤلفات هذه الفترة مثل "الاستبداد الديمقراطي" و"عن العروبة والإسلام".
ولاحقاً في التسعينيات التي تفاقمت فيها الفجوة بينهم وبين الحياة العامة، انكبّ على كتابات سيرية أشهرها "مذكرات قرية" ويَظهر من خلالها تمكّن أدبيّ تجدر الإشارة إلى أنه ليس محض صدفة، فقد وازى سيف الدولة بين الكتابات الفكرية والأدبية، وهو ما عرفه الجمهور حين جمع في 1978 كتابات في المسرح والنقد الفنّي وأدب الرسالة في كتاب بعنوان "إعدام السجّان".
رغم أن اسمه قد دخل منطقة الظل منذ سنوات بعيدة، لا زال عصمت سيف الدولة يلعب إلى يومنا هذا دوراً أساسياً في إدماج الشباب العربي في دورة المعرفة الفكرية والسياسية. ولعلّ هذا العامل هو ما يجدّد الحاجة إليه؛ حاجة الشباب لمدخل من أجل فهم العالم فكرياً.
ولقد كانت ثورات "الربيع العربي"، من 2011 إلى 2019، مناسبات متعدّدة لاستعادة بعض من فكر عصمت سيف الدولة ولكنه لم يُستعد، سوى ضمن دوائر ضّيقة ودون تجديد أو مراجعة، فهو منسي في معظم الأوساط ومجمّد في ما بقي منها.
ربما لم تفلح "نظرية الثورة العربية" في أن تفتح الطريق نحو طموحات الشعوب العربية زمن سيف الدولة، ولكن تظل المحاولة جريئة ومفيدة، على الأقل في جرأتها على التنظير من داخل الإطار العربي. كيف نحلم بتجذير هذه الثورة أو تلك ونحن نهدر كل تراكم تنظيري حول الثورات، وما النظريات وخلاصاتها إلا وسائل "تحول دون استمرار الماضي في المستقبل"، وذلك هو الخطر الذي يدعونا سيف الدولة أن نتجنّبه.