عصر البراءة

15 أكتوبر 2024
ابراهيم الحسون/ سورية
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- يشهد العالم تناقضات بين العنف ومحاولات لإعادة تعريف البشر والأشياء بشكل إيجابي، حيث تسعى جهات أكاديمية وإنسانية لتحويل عصرنا إلى عصر من السعادة باستخدام المنطق والحجة.
- بدأت الجهود منذ سنوات لتغيير وعي البشر عبر قاموس مصطلحات جديد، مثل استبدال "المعاق" بـ"ذو القدرات المختلفة"، بهدف تقديم الأفراد بشكل إيجابي.
- تشمل الجهود إعادة تعريف مصطلحات مثل "الخادمة" و"العاهرة" بطرق إنسانية، لتحسين فهمنا وتقبلنا للآخرين وخلق عالم أكثر هدوءًا وسلامًا.

يأخذنا ما يشهده العالم من حروب ومجازر وقتل وتدمير، إلى وصف ما يجري بالهمجية والوحشية، وكأن هذا العصر ليس إلا عصر موت وخراب، البشرية عاجزة عن لجمه. ومع أن هذا الانطباع لا يخلو من الصحة، لكن من جانب آخر، وكما يبدو على النقيض تماماً، هناك ما يُبشّر بعصر من البراءة، تسعى جهات أكاديمية إنسانية للعمل عليه، ما يقلب عصرنا التعيس إلى عصر من السعادة بوسائل بسيطة، وربما بإيراد بعض الأمثلة عنها ندرك أنه ليس ثمّة خديعة في بساطتها، مع أنها لا تخفي اجتهاداً عميقاً، ينحو إلى تغيير العالم، ليس بالثورات ولا بالسلاح، وإنما بالمنطق والحجّة... أي بالكلام، بإعادة التعريف بالبشر والأشياء على نحو غير سلبي، وإنما إيجابي على وجه التحديد. وهو الأمر الذي سها عنه الفلاسفة وعلماء الاجتماع.  
 
ما أشرنا إليه، ليس أنه سيبدأ العمل عليه، وإنما بدأ، وبُوشر بتسويقه، وإدخاله إلى الاستعمال اليومي منذ سنوات، وتُوحي التوقّعات بتغيير وعي البشر تحت تأثيره، وذلك بمعالجة أحوال الناس على نحو هادف من خلال اعتماد قاموس مصطلحات جديد، يلغي القاموس القديم المستعمل في حياتنا اليومية. 

على سبيل المثال، مصطلح "المُعاق"، إذا دقّقنا فيه، يكشف عن حمولة اجتماعية سلبية، تنفي صاحبه إلى دائرة العجز واللّاجدوى، ما يقضي مُسبقاً على أيّ أمل في تحسين حاله، لذلك استُبدل بمصطلح "ذو الاحتياجات الخاصة"، لكن لم يكن لائقاً، ما زال "المُعاق" تحت الحاجة، فاستُبدل ثانية إلى "ذو القدرات المختلفة" أي لديه قدرات كالآخرين تماماً، لا ينقص عنهم بشيء، لكن القدرات مختلفة.

إعادة التعريف بالبشر والأشياء بلا حُمولات سلبية

كذلك "الخادمة" بحمولتها الطبقية الفاقعة والمُهينة، كأنما هناك سادة وعبيد وحشم، فاصطلح على "الشغيلة" غير أنها لم تغادر حمولتها الطبقية المشبوهة بالبروليتاريا التي أَودت بالاتحاد السوفييتي على الرغم من بطولاتهم في رفع معدّلات الإنتاج إلى تدهور الاقتصاد الاشتراكي، فتصدّت لها البروسترويكا. فاصطلح على تعبير ولو كان طويلاً، وهو "السيدة التي تساعدنا في أعمال المنزل"، ولمزيد من التحبُّب خاصة إذا كانت خادمة دائمة، من الولادة إلى المَمات، فقد تعتبر الأُمّ الثانية، وهذا في الروايات الأميركية عندما كانت الأم الثانية المتفانية سمينة وسوداء البشرة. 

تُحيلنا "الخادمة" التي وجدت حلّاً، إلى "العاهرة" أو "البغي"، ما دامت تقبض أجراً، مقابل تفعيل جسدها، أي أنها تقوم بعمل جنسي، بالتالي يُمكن اعتبارها "عاملة جنس"، كأيّ عامل يُمارس عمله مطمئّناً، لا يجب أن يتعرّض للملاحقة والسجن، ما يوجب تحصينها قانونيّاً، ما دام أنها تُمارس عملاً مقابل المال لما تقدّمه من متعة، سواء بذلت جهداً أو لم تبذل. 

أمّا "الشاذّ جنسيّاً" فيُمكن باختصار أن يُطلق عليه "مثليّاً" ما يزيح فكرة الشذوذ، لئلّا يُعتبَر إنساناً غير طبيعي، وهو تعريف بات سارياً في الغرب، إلى حدّ بات طبيعياً أكثر من الطبيعي. أمّا "المُدمن على المخدّرات" فيجب مراعاة أنه أصبح أسيرها، لعدم إمكانية القضاء على وسائل تهريبها، أو الحدّ من استعمالها، والاعتياد عليها، بالنظر إلى ما يُواجهه الإنسان في العصر الحديث من ضغوط نفسية، ساهم الطبُّ في التخفيف منها باستعمال المهدِّئات، وهي نوع ملطّف من المخدّرات، وتستعمل تحت الرقابة الطبّية، لئلّا تتحوّل إلى إدمان.

لكن ماذا عن المُدمِن؟ حسناً يُمكن تفهُّم حالته وضبط انحرافه ضمن مفهوم لا يتعدّى وصفه بأنه "إساءة استعمال الموادّ المُخدّرة". ولا ننسى أن هناك دولاً تتعيش على زراعتها وصناعتها وتصديرها، ويبتكرون العجائب لتهريبها عبر الحدود، وشبكات تقوم بترويجها وتوزيعها على المستهلكين، عدا أنها تحتاج إلى جهود لصناعتها، من يقوم بها غير العمّال، وعقول لتطويرها، من غير العلماء؟ كما أن ميزانيات دول تقوم عليها، وفي "الكبتاغون" مثال ناجح. 

مهما كان رأينا في السعي إلى تجميل عالمنا، يمكن الجزم بأنه سينجح في تحويل عصر مضطرب تعصف به الكوارث والمآسي إلى عصر هادئ على إيقاع سفك دماء بلا صوت.

 

* روائي من سورية

موقف
التحديثات الحية
المساهمون