عزمي بشارة.. مفكّراً في الكلمات والسّياسات

10 مايو 2022
عزمي بشارة خلال كلمته
+ الخط -

افتتح المفكّر العربي عزمي بشارة أعمال المؤتمر الثالث لـ"معجم الدوحة التاريخي" بمُداخلة موضوعها إجرائيٌّ منهجيّ، وفيها قارَب قضايا هذا المعجم وما أنْجزَه إلى حدّ الآن، ثم ما ينتظره من رهانات وتحدّيات، على مدى الفترات اللّاحقة. فمِن ذلك أنّه أشار إلى صعوبة تحديد آفاق المُدوّنات التي ستُستغلّ في تحرير ألفاظ هذا الطور الأخير، وهي مَناهل مُترامية سَتُستشفّ منها المعاني المُولدة وسيُحقَّب، على ضوئها، ظهورُها.

ولئنْ كانت هذه المهمّة أيسر في النطاق القديم، نظرًا للعدد المحدود للمصادر رغم ضخامته، إلّا أنّها أعسر، في عصرنا الراهن المُمتدّ من القرن التاسع عشر إلى يوم الناس هذا، لأنّ المدوّنة فيه مفتوحةٌ وتضمّ أكثر من مليارَيْ كلمة.

دمقرطة المعلومات اللغويّة وإتاحتها لكلّ القرّاء العرب هي غاية "معجم الدوحة" 

وتطرّق صاحب "مقالة في الحريّة" إلى الأسباب الثلاثة التي دَعته وفريقَه العِلميّ إلى التريُّث في طباعة موادّ "معجم الدوحة التاريخيّ"، التي تخصّ المرحلتيْن الأُوليَين المُمتدّتين إلى القرن السادس للهجرة، ضمن كتابٍ مطبوعٍ، وبالضرورة مُغلق. فمن جهةٍ أولى، يُراد لهذا العمل أن يُسهم في دمقرطة المعلومات اللغويّة عبر جعله مصدرًا مفتوحًا، مُتاحًا لكلّ القرّاء العرب ولغيْرهم. والسبب الثاني هو السماح بإتمام عمليّات تنقيح الموادّ وتعريفاتها وتواريخها وتهذيبها ومراجعاتها، بشكلٍ مستمرٍّ مطّردٍ عبر إجراءات تحقُّقٍ طويلةٍ لا تسمح بها سوى قاعدة البيانات وموقع حيويّ مفتوحٍ، التثبُّت من خلاله أيسر. والسبب الأخير هو الطمع في مساهمات المختصّين العرب ــ من الذين لا يعملون بشكلٍ رسمي في المعجم ــ للإدلاء بدلوهم في تحقيق المَداخِل وإبداء المُلاحظات عليها.

وفي المقابل، أحال المفكّر العربي إلى انعقاد النيّة في طَبع مَحاضِر جلساتِ "المَجلس العِلمي" ونشر ما شهدته من مُداولاتٍ، وهي تُعدّ بمثابة بياناتٍ منهجيّة وإجرائيّة، لا بدّ من الحِفاظ عليها على الأقلّ من جهة الحُقوق القانونيّة، حتى لا يُصادَر هذا المجهود ويُستغَلّ في غيره من الأعمال. ولهذه المَحاضِر قيمة تاريخيّة توثيقيّة، لأنّها تشير إلى هُموم مرحلة التأسيس، حُلْوها ومُرّها. وهو ما سيشهد لها بالسبق، في ظلّ بعض عمليّات الاصطراف، وحتى الاستيلاء، التي ترتكبها بعض الأطراف. كما ستقع الاستفادة منها في وضع الاستراتيجيّات القادمة في استنطاق مدوّنة المرحلة الأخيرة، والتي تتألّف من ملايين الوثائق في العلوم والمعارف والقوانين والصّحافة.

ولا تكمُن صعوبة هذا العمل ــ حسب ما يضيف صاحب "أن تكون عربياً في أيامنا" ــ في استكناه معاني الألفاظ، وإنّما في تحديد أوّل تواردٍ للكلمة المولَّدة، شكلًا أو مغزًى، وفي فحص آليّة التحديد الدقيق ليوم ظهور المَعنى الجديد بفضل تواريخ صدور الكتب، وحتّى أيّامها وساعتها الدقيقة.

عاملُ التأخّر الزمانيّ حقّق للمعجم نضوجًا واستفادةً من أعمال مُشابهة 

وأشار المفكّر العربي إلى أنّ "معجم الدوحة التاريخي" من أنضج المعاجم التاريخية في العالم بسبب تأخُّره زمانيًّا، وبسبب استفادته من كلّ المكتسبات والعثرات التي أنجزها أو ارتكبها غيرُه من الأعمال المشابِهة في الغرب. وهو أيضًا أشمل هذه الجهود وأدقّها لقيامه على مبدأ التقييم المُطّرد.

هذا وقد أعلن بشارة، في ختام كلمته، عن بُشرَيْين سعيدتَيْن، ستتحقَّقان في قريبِ الآجال: الأولى هي إطلاق مجلّة عنوانها "كلمات ودلالات" تُخصّص لدراسات قطاعيّة لتطوّر معاني الكلمات ضمن أبحاث موسّعة مفصّلة؛ ومن جهة ثانية، أعلن عن تخصيص قسم من "معجم الدوحة" للمصطلحات الفنّية. ومن غير بناء العجلة من جديد، ستقع الاستفادة ممّا أُنجز في العالم العربيّ، منذ عقود، لا سيّما ما نهضت به مجاميع اللغة العربية في القاهرة ودمشق والسودان والمغرب، والتي أصدرت عشرات المعاجم الاصطلاحيّة في شتّى حقول العلوم والمعارف.

وهكذا، أظهرت هذه الكلمة تمكُّنًا تامًّا لدى المفكّر العربي من قضايا الدلالة، يكمّل ما تعوّدنا عليه من كفاءته في التحليل الجيو ـ سياسي. وهل يخطر ببال أحدٍ الفصلُ بين اللغة والسّياسة، وهل يَجهل أحد طرائق تلاعب الثانية بالأولى، ضمن حيويّات التفاعل بين الكلام وحركة التاريخ؟


* كاتب وأكاديمي تونسي مقيم في باريس 

المساهمون