عبد القادر ملوك.. عن موسى بن ميمون في الفلسفة الإسلامية

12 اغسطس 2024
يشرح المؤلف ما استُغلق من فكر االفيلسوف الأندلسي
+ الخط -
اظهر الملخص
- **فلسفة موسى بن ميمون وتأثرها بالفكر الإسلامي**: يعرض الكتاب أفكار موسى بن ميمون، الفيلسوف اليهودي، وتأثره بالفلسفات الإسلامية، حيث كان يوازن بين العقل والدين ويعتبرهما مكملين لبعضهما البعض.

- **منهج التأويل عند ابن ميمون**: يوضح الكتاب حذر ابن ميمون في طرح أفكاره الفلسفية، وتأثره بمنهج التأويل الإسلامي، مما جعله يجمع بين المصادر النقلية والقواعد العقلية.

- **إشكاليات وتأثيرات فلسفة ابن ميمون**: يناقش الكتاب إشكاليات حول تجديد ابن ميمون في رؤيته التأويلية للأخلاق وتأثيره بفلاسفة الإسلام، مع تحليل مفاهيم مثل النفس الإنسانية، الحرية، والسعادة.

صدر عن "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" كتاب "فلسفة موسى بن ميمون وأثر الفكر الإسلامي فيها - بحث في الأخلاق والتأويل" لأستاذ الفلسفة واللسانيات والباحث المغربي عبد القادر ملوك، الذي يعرض أفكار فيلسوف يهودي بارز عاصر الدولة الإسلامية في أبهى محطاتها التاريخية، حين كان أتباع الديانات الثلاث ينعمون بقسط وافر من الحرية الدينية والاعتقادية. ويستعرض فلسفة ابن ميمون الأخلاقية والعقلانية، ومدى تأثرها بالأفكار والفلسفات الإسلامية. 

يشير الكتاب إلى أن ابن ميمون، الفيلسوف القرطبي مولدًا الفاسي نشأةً، اليهودي العالم بالتوراة وعالم الفلك والطبيب البارز، كان مقتنعًا بأنَّ أخْذَ العلوم عن المِلَل الأخرى لا محذورَ فيه، فسافر كثيرًا طلبًا للعلم، الذي كان يعتبره أرفعَ شأنًا من العمل، ولم يكن يلتفت إلى عاذله في هذا، فنراه يمدح الفارابي علنًا، ويعتدل في رأيه بأي شيء، موازنًا بين العقل والدين، فخرج من مقولَتَي "دين بلا عقل" و"عقل بلا دين"، إذ لا تعارضَ في نظره بينهما، فالعقلُ منحة الله للإنسان والوحيُ إلهيُّ المصدر، ومن ثمّ، فأيُّ شبهةِ تعارُضٍ بينهما مردّها إلى الخيال التصويري لعقلية السُذَّج. وقد لجأ إلى التأويل، وهو عنده العلم والعمل وإحكام الموازنة بينهما بغير شططٍ، وما هذا إلا الحكمة بعينها كما رشحتْ بها مؤلفاته.

كما يوضح بأنه قد ساح باحثون في مناحي ابن ميمون الفكرية بعمق، إلا أن جهود معظمهم كانت تنصبّ على دراسة الرجل ضمن بوتقة التراث الفكري الإسلامي حصرًا وإغفال بقية أنواع التراث المصاحِبة، ما جعل الإحاطة به بعيدة التحقق، إذ إن تاريخ أيّ بحث نظري في القرون الوسطى لا يكتمل إذا لم توضع في الاعتبار مساهمةُ الفلسفتين العربية - الإسلامية واللاتينية والدراسات اليهودية فيه، وبناءً عليه، فإن الكتاب يتعقَّب فكرًا يهوديًّا هو إرث فلسفي أخلاقي خلَّفه أحد ممثلي العقلانية الأساسيين في أبناء جلدته، إرث نستقرئ بصعوبة بالغة تحولات معانيه في نصوص فلاسفة مسلمين متنوّرين جمعوا بين المصادر النقلية والقواعد العقلية، إمّا تقيةً وإما اقتناعًا بعقم العقل الذي يتنكر للنقل، والنقل الذي يبتعد عن مجهر العقل.

يعرض الكتاب أفكار فيلسوف يهودي بارز عاصر الدولة الإسلامية في أبهى محطاتها التاريخية

ويلفت الكتاب أيضاً إلى أن ابن ميمون، شأنه شأن كثيرين غيره آمنوا بوقف الفلسفة على الخواص، كان حذِرًا؛ فلم يلجأ إلى استراتيجية التشكيك الصريح السبينوزية والسقراطية، بل اختار طريقة التشكيك المبطن الذي يتلقّف معانيه أصحاب البصيرة فحسب؛ نظرًا إلى ما وعاه، كأسلافه الفلاسفة، من حقيقة الاختلاف بين "الحكيم" و"العامي" لدى غالبية الناس، وأن الفلسفة امتياز لقلّة منهم ومريبة ومكروهة لأكثرهم، ولذلك فإن على الفلاسفة والعلماء إخفاء آرائهم سوى عن أمثالهم، وأن يجعلوا تعاليمهم صعبة المنال إلا على محبي الحقيقة. كل هذا جعل الدنوَّ من منهج التأويل عند ابن ميمون في موضوع الفلسفة الأخلاقية عسيرًا من دون فهم تأثره بفلاسفة الإسلام ومنهجه في التأويل، وهو منهج يُعَدّ "مكوِّنًا جوهريًّا للأصل اليهودي"، وثمّة مَن عدَّه حجر الأساس في كتاباته.

وكان الدافع الأول وراء "نبش" فكر ابن ميمون وإثارته مجددًا هو ألّا يطويه النسيان، وملء فراغٍ خلَّفه صمت الباحثين العرب عن فلسفته الأخلاقية وارتباطها بالمباحث الأخلاقية لفلاسفة الإسلام. أما الدافع الثاني فشرح ما استُغلق من فكره وتحليله؛ لأجل تسهيل فهمه على القارئ. والدافع الثالث هو بيان التماثل والمغايرة بين صميم فكر ابن ميمون وإبداعه وفكر فلاسفة الإسلام الآخرين، بحسب الكتاب.

تدور الإشكالية الكبرى في كل فصول الكتاب حول سؤال: أكان ابن ميمون مجدِّدًا في رؤيته التأويلية للأخلاق أم محضَ مُقلدٍ تابع للباحثين المسلمين؟ وتمثّل هذه الإشكالية مُدركًا كليًّا لا يتحقق دفعة واحدة بل من خلال مقاربات لمشكلات فرعية تفضي إلى "أجوبة" لتأويل فكرٍ بين المحتجِب والمتجلي، وبين المعنى ومعنى المعنى، لتطلعنا على نهج "ميموني" سار على التخوم بين صرامة الكتابة الفلسفية والتواءات التعبيرات الصوفية. وبخلاف باحثين صنفوا ابن ميمون في خانة المشّائين، أو الحاخامات المتكلمين، أو المتصوفة الحائرين، لا يرى الكتاب أنّ هذه الخانات الثلاث مثّلت يومًا حصونًا فكرية مغلقة، بل كانت سبلًا مُشرعة لتنقُّل الباحثين فيها والنهل من معينها، ويرجِّح أنّ ابن ميمون شقّ مساره متخذًا من الشريعة منطلقًا لشؤون القلب وأحكامه، ومن الفلسفة منهجًا لشحذ الفكر ومداركه، ومن التصوف تتويجًا لرحلته الروحية في سِفره الضخم دلالة الحائرين.

يبيّن الكتاب التماثل والمغايرة بين صميم فكر ابن ميمون وإبداعه وفكر فلاسفة الإسلام الآخرين

وتضاف إلى الإشكالية الكبرى إشكالات فرعية، مثل: هل أفلحت مقاصد ابن ميمون التأويلية في جَسْر المسافة بين وصايا الشريعة الموسوية والأخلاق الفلسفية؟ أكانت دعوته إلى إعمال العقل والتوسل بالتأويل في قراءة نصوص الشريعة خدمة لطائفته ولمصالحها، أم أنه كان فيلسوفًا يعالج القضايا بمنظور كوني ويرى في الإنسان إنسانًا وكفى؟ وكيف أمكنَه إذ تَشرَّب الفلسفة وعُدَّتها وآلياتها ومنهجيتها أن يجهد لإثبات أسطورة يمجُّها العقل تُنَصِّب بني إسرائيل "شعب الله المختار"؟ أكان تأثُّره بفلاسفة الإسلام انتقائيًّا ومقتصرًا على ما يَدعم دينه، أم أن الروح الوسطوية اقتضت لرجل الدين الانتصار في داخله على الفيلسوف؟

تفرَّد القسم الأول بالتوطئة لمبحث الأخلاق كما صاغه ابن ميمون، ممهِّدًا لهذا بالفصل الأول، وفيه تصدٍّ لمسألتين شائكتين مختلَفٍ فيهما: أوُجدت "فلسفة يهودية"، أم أن ما خَطّته أنامل اليهود لم يتجاوز كونه فلسفة إسلامية كُتبت بلسان عبري؟ ما خلّفه ابن ميمون أيُلحقه بفئة الفلاسفة أم يبقيه ضمن زمرة المتكلمين؟ وبسَطَ الفصل الثاني مقدمات أخلاقية ضرورية لتسويغ الدعوى المنافَح عنها في الكتاب، وفيه توطئتان: توطئة استشكالية للسؤالَين: لماذا يتجشم ابن ميمون عناء الكتابة في الأخلاق بينما يعجّ التشريع التوراتي بقواعدها؟ ولماذا نظَّرَ للأخلاق بالفلسفة مع علمه بتعارضها والتعاليم الموسوية؟ وتوطئة مفاهيمية لمقاربة نسبة الأخلاق وتعريفها. واختص الفصل الثالث برهانات البحث الأخلاقي عند ابن ميمون، مثل حاجة الأخلاق اليهودية إلى تسويغ فلسفي ترتقي به إلى مستوى علمٍ للأخلاق يوجِّه إرادة اليهودي بدلًا من الركون إلى وصايا دينه الخالية من التفكير النقدي.

وتصدّى القسم الثاني لـمنهج ابن ميمون في التأويل (الهيرمينوطيقا)، فخُصِّص الفصل الرابع (الأول في القسم) للتأويل بين الفلسفة والتوراة، لاستجلاء التباين بين التأويل الفلسفي ونظيره التوراتي، بينما بحث الفصل الخامس "مراتب التأويل"، فعَرَض ضرورة مسايرة مختلف طبقات المخاطَبين، ووقف عند الحدود التي بتخطّيها يتحول تأويل النص الديني عند ابن ميمون إلى تجديف. وعرض الفصل السادس رؤية ابن ميمون التأويلية لشرط "الأخلاقية في النبوة"، مستهَلَّةً بتعريف النبوة من وجهة نظر يهودية ومواصفاتها وفق ابن ميمون وبعض سابقيه أو مجايليه من فلاسفة الإسلام.

وركّز القسم الثالث على حدود الإبداع والاتباع في فلسفة الأخلاق لدى ابن ميمون، فتتبع جملة قضايا أخلاقية في مؤلفاته، وعالج في الفصل السابع (الأول في القسم) مسألة "النفس الإنسانية والأخلاق"، ومعاصي النفس وأمراضها وعلاجها ... إلخ، بينما ركّز الفصل الثامن على بحث الدلالة الأخلاقية لمفهوم الحرية الإنسانية عند ابن ميمون، وإزالة التناقض بين حرية الإنسان والإيمان بالعناية الإلهية، مضيفًا الكلام عن الشر الميتافيزيقي والطبيعي والأخلاقي وصلته بحرية الإنسان. أما الفصل التاسع (والأخير)، فقد تصدى لصلة مفهوم "السعادة" بـ"الإدراك" عند ابن ميمون، وكذا شروط إدراك السعادة وتحصيلها.
 

المساهمون