استمع إلى الملخص
- يسلط بوتافووكو الضوء على ثلاث صدمات غربية ناتجة عن الثورة الفرنسية، وينتقد الأنظمة الديمقراطية لجرائمها العالمية، مشيراً إلى ضرورة ظهور وعي جماعي جديد يتماشى مع نبوءة يوهان غوته.
- أثارت المراجعة تفاعلاً في إيطاليا، حيث دعا بوتافووكو لإعادة النظر في القيم الغربية، مستنداً إلى رؤى ابن خلدون والشيخ عبد القادر الصوفي، متسائلاً عن "وقت البدوي".
في وقت لا يزال فيه اهتمام صحف ومجلّات اليسار الإيطالي المعنيّة بالثقافة العربية والإسلامية مُنصبّاً منذ بدء العدوان على غزّة على الصحّة النفسية لـ"مجتمع الميم عين في الشرق الأوسط"، بالإضافة إلى ما يطلق عليه الروائي والناقد الفنّي الإيطالي فولفيو أباتي "أدب الإفرازات المهبلية" (الفرع العربي)، طالعتنا صحيفة "ليبيرو" اليمينية، التي أسّسها رئيس الوزراء الإيطالي الراحل سيلفيو برلسكوني، بمراجعة استثنائية، نُشرت مطلع الشهر الجاري، وأفردت لها صفحتين من توقيع الروائي الإيطالي ورئيس "مهرجان فينيسيا السينمائي" بييترانجيلو بوتافووكو، وقد خُصصت للترجمة الإيطالية الصادرة حديثاً لكتاب "وقت البدوي: عن سياسة القوّة" (منشورات "إل فونداكو دي ليبري"، 2024) للمؤلّف الاسكتلندي إيان دالاس، المعروف بعد اعتناقه الإسلام باسم الشيخ عبد القادر الصوفي المرابط.
في كتابه الصادر بالإنكليزية عام 2006، والمترجَم إلى اللغة الإيطالية بتوقيع ستيفانو علي أتزالي، قدّم عبد القادر الصوفي (1930 - 2021) نقداً لاذعاً للديمقراطية السياسية؛ حيث بيّن أنّ الترويع هو الجوهر الحتمي لما يكتنف النظام الديمقراطي الذي تجِد جميع الشعوب والأمم نفسها مضطرة للالتزام به اليوم. ويكشف الصوفي في تحليله الثورة الفرنسية وشخصيات أبطالها عن قطيعتهم مع التاريخ، حيث كانت المذابح الجماعية والإبادة هي الحدث المخصّب الذي قامت عليه الديمقراطية الحديثة. وهكذا تمّ القضاء على الطبقة الأرستقراطية المتهاوية، لتظهر نخبة جديدة غير شرعية، استحوذت على الثروة، وأعلنت نفسها أخيراً "سيّدة على الكون".
واليوم، ومع تضرّج هذه النخبة المالية بالعار والسقوط الحتمي لها ولمنظومتها المستحوِذة على الثروة، ستظهر بالضرورة طبقة أرستقراطية جديدة، كما يستشرف عبد القادر الصوفي، في إشارة إلى نظرية ابن خلدون في تجدّد دورة التاريخ. وستنحدر الطبقة النبيلة الجديدة بحسب الصوفي ممّن يُسمّيهم ابن خلدون "البدو"؛ وهُم ليسوا عرب الصحراء بالضرورة، بل أُناس غير مرتبطين بنظام اجتماعي ثابت. وسيكونون هُم من يجسّد تلك الصفات التي طالما ارتكزت عليها جميع الأرستقراطيات الشرعية،: النُّبل، والاهتمام بالآخرين، والالتزام بالدين السماوي.
تلتقي أفكاره بنبوءة غوته عن إسلام مُطعّم بالمتوسّطية
وفي مراجعته، التي وصفتها مجلّة "التحالف الكاثوليكي" الإيطالي بأنّها جوهرة فكرية بحدّ ذاتها، يشير بييترانجيلو بوتافووكو إلى أنّ عبد القادر الصوفي يضع إصبعه "في كتابه المدهش على ثلاث صدمات في الضمير الغربي خلّفتها الثورة الفرنسية: الحرب الأهلية الأوروبية عام 1848، وإفرازات الحرب العالمية الأُولى 1918، وهذه الحرب الأهلية العالمية التي لا زلنا نعيشها هذا الصباح وسنعيشها مساءً وربما غداً وبعد غد"، في إشارة إلى العدوان الجاري على غزّة ولبنان. ويستطرد بوتافووكو ضمن مقاله المعنون بـ"عن ثوّار تظاهروا بالنبل" بأنّ سياسة الإلغاء هي ما جلبته لنا الثورة الفرنسية التي "انتصرت فيها الفردانية البرجوازية وإلحاد الدولة... والبراغماتية والعربدة ودول ترسل ملايين البشر للموت في تكريسٍ لطغيان لم يعرف التاريخ مثيلاً له من قبل".
ثم يعود بوتافووكو ويذكّرنا بمشاهد الترويع التي قامت عليها الثورة الفرنسية (1789 - 1799) و"الاحتفاء بقطع الرؤوس ودحرجتها في الساحات في تبرير للطغيان باسم الفضيلة"، بالإضافة إلى سَوم صنوف مريرة من العذاب للكاثوليك (والإشارة للإبادة التي تعرّض لها الكاثوليك في مقاطعة فاندي الفرنسية بين 1793 - 1794).
ولم يتوقّف الكاتب هنا، بل عرّج على جرائم الأنظمة الديمقراطية حول العالم، التي أخذت شرعيتها من قيم الثورة الفرنسية، على غرار ما خلّفته الحرب العالمية الأُولى والفظائع الاستعمارية في الجزائر، ليصل إلى جرائم معتقل "غوانتانامو"، التي ارتُكبت جميعها باسم حماية حقوق الإنسان وبحصانة دستورية، دون أن يغفل النخبة المالية المتغوّلة التي تحكم العالم اليوم ولا تزال تدّعي الفضيلة، مثل أسلافها ممّن صنع ثورة الرعب الفرنسية من خلال شخصيات تزعم حبها للآخر وللانسانية، ولن ينقذ العالم منها ومن عدميتها، وفق بوتافووكو، سوى ظهور وعي جماعي جديد (بالمفهوم الذي صاغه ابن خلدون) سيلتقي بنبوءة يوهان غوته حيث سيكون قوامه "إسلام مُطعّم بالمتوسّطية".
رأى أنّ الديمقراطية الغربية تأسّست على الإبادة
مراجعة بوتافووكو المدوّية، بوصفه اسماً وازناً في الساحة الثقافية الإيطالية، لكتابٍ ضدّ التيار كهذا أثار تفاعلاً في إيطاليا؛ حيث أفرد ماركو ريسبينتي لمراجعته مقالاً على موقع "التحالف الكاثوليكي" أشاد فيه بالمقال، مشدّداً على أنّ فلاسفة ومفكّرين غربيّين كثُراً تنبّهوا مباشرة بعد انتصار الثورة الفرنسية لدخول العالم نفقاً مظلماً، مُذكّراً بما أعلنه إدموند بورك بمرارة غداة انتصار الثورة الفرنسية: "ولّى زمن الفروسية!"، إلّا أنّ فكرة استبدال الرجال برجال جُدد يأتون لتحرير العالم من هذه الطغمة المالية التي استأسدت على العالم بأسره في العقود الأخيرة في ما يمكن وصفه بـ"ثورة بدوية مضادةّ"، يقول ريسبينتي، هي حتماً نظرية خلدونية تستحقّ الوقوف عندها.
هكذا وفي ظلّ الاهتمام البالغ الذي توليه الأوساط اليسارية التقدّمية للأعضاء التناسلية العربية، والتي غطّت أدبياتها في الغرب على كلّ النتاج الثقافي العربي الذي يزيد عمره عن ألف سنة، إلى جانب الضحالة التي تلفّ جلّ التحليلات السياسية والاجتماعية لهؤلاء في ما يخص الأوضاع في الشرق الأوسط، أطلّ علينا أبرز رجالات الثقافة في إيطاليا في حوار فكري تصدى فيه بييترانجيلو بوتافووكو - وهو المحسوب على اليمين الإيطالي والمنحدر من عائلة صقلية نبيلة ورئيس أعرق مؤسّسة فنّية إيطالية - للدفاع عن رؤية جديدة للعالم من بوابة ابن خلدون والشيخ عبد القادر الصوفي، بعيداً عن الإسفاف الفكري لثوّار الإبادة والعربدة، معلناً انطفاء الأنوار الزائفة للثورة الفرنسية... فهل حان أخيراً "وقت البدوي" ليعيد للعالم زمن الفروسية؟
* روائية ومترجمة جزائرية مقيمة في إيطاليا
بطاقة
كان إيان دالاس Ian Dallas كاتباً مسرحياً وممثّلاً شارك في أفلام من بينها "8½" للمُخرج الإيطالي فيديريكو فلّيني عام 1963، قبل أن يعلن اعتناقه الإسلام عام 1967 في "جامعة القرويّين" بمدينة فاس المغربية ويتسمّى باسم عبد القادر الصوفي، ويدرس التصوّف في كلّ من الجزائر والمغرب. عُرف بدعوته إلى التمسّك بما سمّاه "الصياغة الأوّلية للمجتمع الإسلامي" ممثّلةً بأهل المدينة المنوّرة، وألّف عدّة كتب عن الإسلام والصوفية والنظريات السياسية.