عبد الباسط سيدا.. أساطير الرافدين بوصفها فلسفة

09 مارس 2022
جدارية آشورية في المتحف البريطاني (Getty)
+ الخط -

في كتابه "الوعي الأسطوري الرافدي: تجلياته الفلسفية" الذي صدر حديثاً عن "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات"، يبيّن الباحث السوري عبد الباسط سيدا (1956) الوقائع والقرائن التي تتناول طبيعة إسهام الفكر الشرقي وحدوده عموماً، وفي بلاد الرافدين تحديداً، في الفعل الفلسفي النظري اليوناني اللاحق. 

ويتلمّس المؤلّف الجوانب التي حالت دون تبلور معالم الفعل المعني في بلاد ما بين النهرين، على الرغم من الإنجازات الكبرى التي حققها على مختلف الصعد والمستويات، وفق معايير العهود التاريخية التي تحدد الإطار الزمني للبحث موضوعًا لهذا الكتاب.

وتنبثق مشروعية البحث من أنّ الوعي الأسطوري هو أحد الموضوعات التي تثير الاهتمام والاختلاف في الوقت ذاته؛ فهو ينتمي إلى مرحلة ذهنية موغلة في القدم، سبقت ظهور الفلسفة، وشهدت التأملات الإنسانية الأولى، وهو وعي يثير عادةً رغبة الإنسان المعاصر في الوقوف على أبرز ملامح الجهود الذهنية التي أراد أسلافه - أصحاب الأسطورة - من خلالها تحصيل قدر من الوعي، للإجابة عن الأسئلة التي كانت تقلق تفكيرهم، ولتحقيق نوع من التوفيق بين الضرورات الحياتية، والغموض الذي كان يخيّم على آلية القوى الكونية الفاعلة.

غلاف الكتاب

شكّلت المادة الأسطورية مقدمة أولية تَعامَل معها التاريخ من موقع تحليلي نقدي، بحسب الكتاب، لكنه لم يتمكّن دائماً من الوصول إلى درجة التجرّد التام، والتحرّر الكامل من سائر المؤثرات الأسطورية، إلا أن هذا ليس معناه أن الأسطورة كانت تمثل جهداً تاريخياً صرفاً، لأنها في الواقع جسّدت على الدوام نظرة المجتمع إلى العالم، ولم يكن اهتمامها بمجمل الأحداث إلا في سياق ما كانت تحتاج إليه، لتتمكن من تقديم موقف يحظى بالقبول والاحترام، في إطار هالة من التقدير الخاص الذي كان يصل أحيانًا إلى حد القداسة التي بلغت ذروتها، بعد أن تبنّى الدين الأسطورة، واتخذها أداة رئيسة يعوّل عليها في تصوراته وترسيخ أسس هيبته.

كما يلفت إلى أن الأسطورة، هي شكل من أشكال الوعي الاجتماعي، يجسد نظرة المجتمعات القديمة إلى العالم الذي يشمل الكون والمجتمع والعلاقة القائمة بينهما في صيغة رمزية شاعرية. وهي بهذا المعنى تُعتبر لحظة ذهنية أثار الإنسان من خلالها أسئلة كبرى، خص بها الكون كلّه وموقعه منه، وأراد أن يصل من خلالها أيضًا إلى تصورات معيّنة بشأن المعرفة الإنسانية، والخلود، والقيم، والموجودات، وغير ذلك من الموضوعات التي بدأ اهتمام الإنسان ينصبّ عليها بعد أن قطع شوطًا على طريق تعزيز استقلاله النسبي تجاه الطبيعة، في حين كان هدف السحر الأول هو تلبية الحاجات الإنسانية المباشرة، عبر اعتماد أدوات مختلفة (طقوس، تعاويذ، أجزاء من موضوع السحر نفسه ... إلخ).

ويوضّح المؤلّف أن الوعي الأسطوري الرافدي، بوجه عامّ، لم يتمكن من تجاوز حالة التلامس والتداخل بينه وبين واقعه، على الرغم من أنه استطاع في حدود نقاط معينة بلوغ مستوى التفاصل النسبي تجاهه. لكن هذا التفاصل لم يكن يمتلك من المقومات ما يمكّننا من تأكيد بلوغه مستوى الاتجاه العام المهيمن، وتفسير هذه الحالة لا يتم إلا من خلال متابعة العوامل التي حالت دون بلوغ الوعي الرافدي مستوى ممارسة الفعل الفلسفي النظري.

وتميّز الوعي الأسطوري الرافدي بآفاقه المحدودة، فقد كان يدعو إلى التعامل مع المعطيات القائمة، وكأنها الخيارات الوحيدة التي لا بد من الركون إليها، والأخذ بها من موقع صدقيتها المطلقة غير القابلة للنقاش؛ فالآلهة هي التي أرادت، وهي التي تهيمن على جميع الأحداث الكونية والإنسانية. ويبدو أن هذا النزوع كان ينسجم، عمومًا، مع الوضعية الاجتماعية القائمة، وتوجهات السلطة المهيمنة ببعديها الديني والسياسي. إلا أن هذا الانسجام كان يخترق أحيانًا ببعض التأملات الذهنية التي كان مردها تفاعلات الوضعية الاجتماعية نفسها، وتبلور استيعاب حقيقة التفاوت الاجتماعي والنتائج المترتبة عليه، إضافة إلى التراكم المعرفي، والخبرة الحياتية اللذين كان يجري تحصيلهما من جانب سائر القوى الاجتماعية الفاعلة الرافدية. لم تتمكن عملية الاختراق هذه، على الرغم من أهميتها الفائقة، من بلوغ مستوى إحداث خلخلة كبرى في البنية الذهنية العامة، ليتسنى لها - بفعل ذلك - شق طريقها بثبات نحو الفعل الفلسفي النظري، وهو الفعل الذي شكّل الوعي الأسطوري بوصفه مقدمةً مهمّة من مقدماته.
 

المساهمون