على حجارةٍ كأنَّها رأسي
أمطرقَتُكِ هذهِ المرفوعة منذ أن نعقَ الغرابُ على شَجرة البيت
وتمرَّغَ عصفورٌ بسحنةِ الفجر البارد وصمتهِ؟
أمطرقَتُكِ هذه التي تَنزلُ على حجارةٍ كأنَّها رَأسي
ورأسي في ضربة المطرقة صلدٌ ولا يتهشَّم!
رُبّما هي الساعةُ تَجلد الوقتَ وتدفعهُ مُسرعاً في بَراري الزَّمن الأغبر
رُبّما هو الميزاب
يُقطِّرُ ماءً يتمنّى أن تكون له جرأة المِسمار،
ويحاولُ ذلكَ في ثَقْبِ غَفوتي
ربما هم حفّارو قُبورنا الذين لا نعرفهم ولا يعرفوننا
وأنَّ أرضاً سَنُدفَنُ فيها تنادينا.
أيُّ صوتٍ هذا إذن
وأيِّ رأسٍ صامدٍ منذ 1996
وحتّى هذه اللحظة
حتّى هذا الضرب
وحتّى هذا العِناد في التهشُّم.
أمطرقَتُكِ هذه، يا أمَّةً تقف في الطابور على صخبي وهدوئي
وتضربُ فيه بلا ملل!
■ ■ ■
مُتحجِّراً على المُرتفع
من الذي أَوْقَفَني على هذهِ التلَّة الصَغيرة
وقال: انظُر إلى أسدِ بابلَ صريعاً على المُنحدر
وترابَ أورَ يُذرى في عيونِ التَّماثيل
أنظر إلى المجرى كيف لا ماءَ فيه وكيف يُمزِّقُ الطين نفسه بالجفاف
وكلُّ ما هنالكِ عارٍ بلا شجرةٍ تُظلّل تاريخنا
ولا طير يحرسُ أخبار أسلافنا الغافين تحت النقوش.
الذي أوقفني هنا
أحنى رأسي عَمداً على مُدنٍ تُباع وتُشترى
وقال: انظُر إلى أهلها كيف لا يشتريهم أحد
مُدنٍ تُطحنُ برحى الغرباء
وشظاياها منشورة في الصحف.
وها أنا واقفٌ على المُرتفع
لست كالمسيح الفادي
أنا وحدي في وقفتي
أفكّر كيف سأظلّ هكذا مُتحجِّراً
حتّى مطلع الفجر.
■ ■ ■
تَسمعُ أنشودةَ قلقي
قَلِقاً على صَرخةِ الطِّفل آتياً من صُراخ أمِّه يحمِلُ صُراخه
وفي صُراخهِ يتمطّى العالمُ ويصحو من جديد.
يا ضحكةَ الأب في دهاليز المشفى ويا شُكره
يا انشغال الأهل في الأسماء الكثيرة وماذا ينعتونه
من يحمل معي قلقي؟
لم يعد ينفعُ حِرزُ الجدَّةِ مُنكبَّةً على عَرشِها تَخزل الأدعيةَ
ولا مبخرةُ الجارةِ تخنقُ فيها صدرَ البلايا،
فبماذا نُحصِّنُك يا صغيراً تُهدِّئه الآن ضحكة الملاك؟
قَلِقاً عليكَ من بلادٍ زحزحوها وصارت تتعلَّق بشعرةٍ مدهونةٍ على هاوية
من رصاصةٍ تُطلَقُ في الأقاصي ولكن صداها لا بدَّ أن يخدش جوعكَ وعطشك
ومن من كائناتٍ عَبثت بأصباغ الإلهِ ولوَّثت لوحة خلقه
قَلِقاً أسمع باسمك يكتبونه في السجلّات
وأحملُكَ بين يديَّ
مؤذِّناً في وجودكِ أنشودةَ قلقي
فتسمعها مُتبسماً
ثم لأجلها تصرخُ
ولأجلها في وجوهٍ مستبشرةٍ
تبكي.
■ ■ ■
أمّا أنتِ... أمّا هم
أمّا أنتِ، فما بقيَ معكِ من تعاويذَ لا تَردُّهم إليكِ
وما بقيَ من لهفةٍ، بدِّديها مع الماء مُغادراً أسفل الباب
أمّا أنتِ، يا شامةً تُجاور شَفةَ الغياب
ويا وشماً على ذِراع الغُروبِ الحَزين بِلا أحدْ
غلِّقي الشبابيكَ واسدلي الستائرَ
فحاملُ القنديلَ في لَيلِ المشقَّةِ عادةً حارس الزُّقاق
وظلّه الذي يُلاحقه على الجدار، خوفه من المَوت
غلّقي، فالقِطارات الواقفةُ توّاً في المَحطَّةِ البَعيدة
ليست لهم
والقواربُ التي رَسَتْ على ضفةِ النَّهر
محضُّ أشباح.
أمّا أنتِ، فأنتِ قَلقهم في مَوتهم
وأمّا هم، فهُم ضَياعكِ في لمّة الأحباب.
■ ■ ■
أراه من النّافذة
أليفٌ هذا النَّهرُ الذي يصبُّ من لوحة البستانِ
على كتاب الينابيع في المكتبة
ومؤنِسٌ سربُ الحمامٍ يُهاجرُ من صورتي في الصِّبى
إلى صورتي في غرفة البيت نائياً عن العالم.
من هنا، عبرَ المُشاةُ على الجسرَ إلى زهرة الوادي
ومن هناك، لوَّح العازفون بالقصب لميّال رأسه على عزفهم
لا نافخ في قرنِ ثورٍ يكسرُ غفوة النائم في سريره
لا هَلِع يسحبُ العواصف من أقدامها فيواري ثياب الملائكة
ولا حجر يتلبَّسُ خطوةَ الماشي ويُجنُّ فيها.
أليفٌ هذا العالم الذي أُربِّيه في غُرفتي
وموحشٌ ذلك الذي أراه من النافذة.
* شاعر من العراق