"ضمّة" كتاب قصص زينب شرف الدين الصادر عن "دار صنوبر" في بيروت، هو من قلائل كتبها. لن نقول عن زينب إنّها مقلّة فحسب، فالكتابة واحدة من فسحات العيش عندها. إنها تكتب حين تستوقفها الكتابة بديلاً عن الحياة، حين تكون الكتابة هكذا فضاء ممكناً، بل ملحّاً.
تحت هذا الإلحاح، تبدو كتابة "ضمّة"، إذا توقّفنا عند القصّة الأُولى، "شجرة الفي"، ترجمةً صريحة لهذا الإلحاح. "شجرة الفي" تبدو وكأنها ترجيع موصول لحاجة داخلية. لن نتعب حتى نفهم أنّ "شجرة الفي" هذه، بكل ما يعنيه الفي وما تعنيه الشجرة، هي أمّ الكاتبة.
من يعرف زينب، ومن لا يعرفها، لن يشك لحظة في أنها تكتب عن أمّها، لا تكتب فحسب، بل تنشد، إنها أغنيتها، بل صلاتها، لهذه الأمّ الراحلة. القصة هي تذكار الأوقات الأخيرة للأمّ، إنها هكذا في لحظة الفصل. استعادة، لكنّها أيضاً مباركة، فاللحظة الأخيرة هي أيضاً وردية بجمال الأم "دفق الروح الذي غمرتني به، لم أتحرّك علّ عقارب الساعة تتوقّف معي عن الحركة، بل لعلّ فعل الموت ينتهي فيدعنا تماماً هناك، كما كنا". "شجرة الفي" هي أيضاً العائلة، فالوالدة المحتضرة هي أيضاً حضور للأب الغائب.
تكاد القصص تكون ألواناً من التصريح، وأحياناً من الاعتراف
حين نقرأ إهداء الكتاب لأخ الكاتبة "أحبك لأنك أهل لذاك"، الإهداء الذي يسترجع قصّة عن الأم المتضرّعة في أوقاتها الأخيرة للأب الغائب، نشعر أننّا هكذا في أجواء العائلة، لكن زينب لن تبقى هنا في أقاصيصها اللاحقة. في هذه الأقاصيص نعثر كثيراً على عائلات وعلى أمّهات وإخوة وأقارب. نعثر على عائلات لكن ما نقرأه في قصصها لن يكون دائماً استحضاراً لعارم الحنين، عامر التضرع والمباركة. خلاف ذلك نجد أن الأقاصيص الأُخرى، وهي تستعيد العائلة، لن تكون هذه فيها العائلة المقدّسة والمباركة، سيكون الأمر غالباً مختلفاً. الأم أيضاً في هذه الأقاصيص ستكون أُخرى، ستكون عكس شجرة الفي ونقيضها. بل إن الأمر قد يشطح أكثر من ذلك، وإلى مسافة أبعد.
في "ذاكرة الماء"، تنجب المرأة من عشيقها، إنها امرأة فاجرة، لكنها ستكون أيضاً أمّاً فاجرة، ستسوم الابن العذاب، وستعامله بملء الكراهية. في القصة الأخيرة "بدر وكريستيان"، نجد الأم تسوم بدر العذاب، لا لشيء إلّا لأنها فقدت بكرها الذي سبقه، والذي كان اسمه بدر. هذه المرّة لن يقتل بدر أمه كما فعل سابقه في "ذاكرة الماء". بالعكس من ذلك سينهار حين يعلم بوفاتها. هنا أيضاً لن تكون الأم سوى كابوس على ابنها، في حياتها لكن أيضاً في موتها.
هناك أمّهات كثيرات في قصص زينب شرف الدين، أكثر بكثير ممّن فيها من آباء، الآباء طبعاً موجودون لكن غالباً في الهامش، الأمّهات حاضرات بقوّة أكثر. هنّ العائلة أكثر من الرجال، لكن العائلة المكوّنة من الطرفين، مزدوجة بقدر ما هي ممزّقة. إنها مزيج من علاقات متضاربة ظالمة ومتفسّخة. تبدأ العائلة من حب بين شريكين، لكنها تنتهي بافتضاح العلاقة، بانقلابها على نفسها، وتجويفها. تنتهي بخروج الرجل وانقلابه عليها. إذا كان في قتل الأم دمغة فرويدية، فإنّ شيئاً كذلك يكاد يسود العلاقات كلّها. المرأة هي التي تتكلّم، وهي التي تتلقّى العلاقة إلى أن تسقط هذه عليها. تكاد قصص زينب، من هذه الناحية، أن تكون ألواناً من الافتضاح، من التصريح، وأحياناً من الاعتراف.
في قصة بعنوان "عشّاقي" نقرأ: "لا يروق لي رجل يخلو من عطب ما، بل كلّ ما كثرت نواحي الخلل في شخصيته، ازداد إعجابي وهيامي به". من هنا منفذ إلى الاعتراف، نعود إلى السيرة، لكنها هذه المرّة سيرة مضادّة.
* شاعر وروائي من لبنان