في النقاش الساخن الذي موضوعه الحرب، الحرب عموماً، أو أيّ حربٍ ما حاضرة أو تلوح في الأفق، يقف مثقّفون عرب، أو سوريون في الحالة التي أتحدّث عنها، كي يعلنوا أنهم ضدّ الحرب، غير أنهم سرعان ما ينقسمون بين مَن هُم "ضدّ الحرب"، ومَن هُم "ضدّ الحرب.. ولكن".
أمّا في الفريق الأوّل، فالقضية لا تحتاج للجدل: إنهم ضدّ أيّ حرب، ومن أيّ جهة جاءت. بينما يَظهر أولئك الذين هُم "ضدّ الحرب.. ولكن"، غاضبين، ومستعدّين لخوض نقاش صاخب وعدواني حول مسألة "لكن" أكثر بكثير من النقاش حول الحرب ذاتها، وأضرارها، وانتهاكها لمعايير الإنسانية. وتحت هذه الـ"لكن" ينطوي رأيهم الحقيقي وموقفهم، لا من هذه الحرب التي تُهاجم فيها روسيا بلداً مثل أوكرانيا، بل من كلّ الحروب. وبهذا المعنى، تسعى هذه اللعبة إلى وضع المُحاوِر في شبكة الصيد الفكرية المطمئنّة إلى أننا متّفقون في الرأي، ثم تنقضّ عليه بالقول إن كلّ ما سبق لا قيمة له، لأنّ الـ"لكن" تنفي ما قبلها، وتُثبت ما بعدها فقط.
والمشكلة ليست في أن شخصاً ما يُبدي رأيه ــ فهذا واحد من الحقوق التي يدافع عنها الجميع اليوم، بغضّ النظر عن مدى التزامهم باستحقاقاتها ــ بل في الاختباء وراء العبارة، أي في الزعم أنهم ضدّ الحرب. إذ لن يكون بوسع المثقّف، أو الروائي، أو الشاعر، أن يُعلن تأييده للحرب، بينما يستطيع عبر لجوئه إلى "ولكن" أن يجد هنا، أو هناك، مسوّغاً ما "يتفهّم" من خلاله دوافع مُشعلي الحروب: الدفاع عن النفس، الاستفزاز، الأمان، البترول، الغاز، الهويّة القومية، تجريب السلاح؛ أو يلجأ إلى الكلمة الجديدة الغامضة المحمَّلة بالعدوان، في الاستعمال العربي، حتى نقيّ عِظامها: الجيوبوليتيك.
مثقّفون يبحثون عن ثغرات في كلّ مسعى إنسانيّ لإنهاء الحروب
ولكي يُثابر على موقفه، فإن على هذا المثقّف أن يجد الشيطان الذي يغذّي كلمة "ولكن"؛ وهو متوفّر بكثرة في هذا العالم المخبول: الناتو، الإمبريالية، أميركا، الغرب، الرأسمالية... بل بدا أن بوسع أصحاب الـ"لكن" أن يجدوا ثغرات في كلّ مسعى إنسانيّ أو أخلاقي يفكّر في إنهاء الحروب أو تلافيها.
في رواية "الفردوس على الناصية الأخرى" لماريو فارغاس يوسا، تُهدي فلورا، إحدى شخصيتَي الرواية الرئيسيتين، كتيّباً لها عن الاتّحاد العمالي إلى المطران ديجون، ثم تذهب إلى زيارته لمناقشة الموضوع: "كان المطران قد قرأ الكتيّب الذي أهدته إيّاه، فأغرقها بالمديح: بنيّتي ــ قال لها ــ نواياكِ طاهرة، نبيلة، فيها فهمٌ واضح للألم البشري، وإرادة متوقّدة للتخفيف منه. ولكن"، يقول المطران. وهنا يكتب يوسا التعليق الساخر التالي: "ولكن، ولكن، هناك دائماً هذه الـ'لكن' في هذه الحياة البعيدة عن الكمال". وعدم الكمال في نظر المطران هو أن فلورا ليست كاثوليكية، وهي محض ذريعة؛ ولأنها ليست كذلك فإنه لن يساعدها، ذلك لأن كلامه عن التعاطف مع الألم البشري مرهون بما بعد "لكن" ــ شأن الموقف من الحرب لدى بعض مثقّفينا ــ لا بما قبلها.
* روائي من سورية