في عام 2012، أطلقت إذاعة "فرانس أنتير" ــ الأولى لناحية عدد المستمعين يومياً في فرنسا ــ برنامجاً بعنوان "صيفٌ مع مونتاني"، وفيه قدّم الناقد وأستاذ كرسي الأدب المقارن في "كولّج دو فرانس" حينها، أنطوان كومبانيون، حلقاتٍ قصيرة، بين 3 و4 دقائق، أجمل فيها، بلغة مبسّطة، العديد من الأفكار والمقولات والتجارب التي تحمل توقيع الفيلسوف الفرنسي الذي عاش في القرن السادس عشر (1533 ــ 1592).
سيعرف البرنامج نجاحاً كبيراً، وهو ما سيقود القائمين عليه إلى التعاون، منذ العام التالي، 2013، مع منشورات "إكواتور" لطباعة محتوى حلقاته في كتاب، في شراكة ستستمرّ حتى اليوم، مثمرةً كلَّ صيفٍ عن برنامج وكتاب يتوقّف عند واحد من الأسماء الأدبية والفكرية البارزة في فرنسا وخارجها. وهو تعاونٌ أثمر، حتى اليوم، عن مبيع أكثر من 800 ألف نسخة من هذه السلسلة، بحسب موقع "الإذاعة الفرنسية".
بعد رامبو وهوميروس وبليز باسكال وفيكتور هوغو ومكيافيلي ومارسيل بروست وبول فاليري وغيرهم، يصل البرنامج، في موسمه الجديد الذي انطلق أوّل من أمس الإثنين، الثالث من تمّوز/ يوليو الجاري، إلى الكاتب الإسباني ميغيل دي ثيربانتس (1547 ــ 1616)، وتحديداً إلى روايته "دون كيخوته" (نشرها في جزئين، عام 1605 ثم عام 1615).
وكما جرت العادة، فقد أُوكِلَت مهمّة إعداد البرنامج وتقديمه إلى أحد أبرز العارفين بعوالم الأدب في فرنسا، وهو هنا الناقد ويليام ماركس (1966)، الذي حلّ محلّ كومبانيون في كرسي الآداب المقارنة بـ"كولّج دو فرانس".
وبدأ ويليام ماركس حلقته الأولى من البداية، أي من مطلع "دون كيخوته"، "أحد أشهر البدايات في عموم التاريخ الأدبي"، مقارناً إياه بمطالع روايات "سلامبو" لفلوبير و"آنا كارينينا" لتولستوي، و"في البحث عن الزمن الضائع" لبروست، قبل أن يعلّق على تجديد ثيربانتس في رفضه تحديد اسم أو موقع القرية التي تجري فيها أحداث الرواية، مسمّياً هذا الخيار "كبتاً واعياً"، وهو ما يقود إلى فتْح باب الاحتمالات والقراءات واسعاً، بين مَن يمكن له أن يصدّق راوياً يرفض إخباره بكلّ شيء منذ البداية، وبين مَن يريد تصديق هذه اللعبة الأسلوبية.
بعد هذا المدخل التمهيدي، قدّم الناقد الفرنسي، حتى اليوم، حلقتين، عاد في الأولى إلى تدخُّل الكاتب الإسباني في سرد حكايته منذ مقدّمة الحكاية، وهو ما أتاح له التعريف بالمؤلّف في الحلقة الثانية، قبل أن يعرّج، في الثالثة، التي بُثَّتِ اليوم، على شخصية دون كيخوته بوصفها واحدةً من أولى الشخصيات التي لا يمكن تسميتها بـ"بطلة رواية"، بل بـ"بطلة مضادّة" لما هو سائد عن أبطال السرد الخارقين في زمانه.
ويتوقّف ويليام ماركس في الحلقات القادمة لدى عدد واسع من المواضيع التي يستقيها إمّا من محتوى النصّ، متنقّلاً مع بطل ثيربانتس في مغامراته، أو من مقارنات بين هذه الرواية وبين أثرها اللاحق، عند روائيين بارزين مثل غوستاف فلوبير، أو حتى في الاستخدامات الحديثة والمعاصرة له، إن كان في التحليل النفسي، أو في النظريات النسوية، على سبيل المثال.