في ظلّ الإبادة الجماعية، لا تحتفظ الكتابة بدورها الذاتي فقط، وإن كان للتجربة الشخصية دورُها التفاعُلي المهمّ، بل تتعدّى ذلك لتصبح جزءاً من الواجب العامّ، ومكوّناً أساسياً من مشهد التوثيق. وفي هذا السياق، يمكن قراءة عدد من المبادرات التي ينقل لنا أصحابُها، بالكلمات، صورة عن التوحّش الصهيوني في غزّة، وفظاعة الموت الذي تُلقيه آلة القتل الإسرائيلية فوق رؤوس الأهالي منذ ثلاثة أشهر.
"نجمع، نُترجم وننشر نصوصاً لكاتبات وكتّاب يواجهون الإبادة في غزّة، لنرفعَ كلماتهم في وجه العالَم. نحثّكم على مشاركة، طباعة، ونشر، وتوزيع النصوص بكلّ الطرق الممكنة، دعماً للنضال الفلسطيني لأجل التحرير". بهذه الكلمات الموجزة يفتتح موقع "كتابةٌ عبر الإبادة" الإلكتروني www.gazapassages.com واجهته أمام القارئ. الموقع الناشئ حديثاً، لا يعتمد تقنيّات وتصاميم مُعقّدة، لكنّ الجهد المبذول فيه لافت.
يسعى المتطوّعون في الموقع إلى تقديم نصوص لكاتبات وكتّاب من غزّة والتعريف بهم، وإتاحة ترجمات عنها إلى عدّة لُغات؛ الإنكليزية، في المقام الأول، والفرنسية والإسبانية والإيطالية والألمانية والبرتغالية والدنماركية والكتلانية والبشتو واليونانية. و"كلّ المتطوّعات والمتطوّعين، في الترجمة والتنسيق والتصميم، لا تُذكر أسماؤهم كإشارة تواضع وانحناء أمام تضحيات شعبنا في غزّة... أمّا الحقوق فمحفوظة جميعها لأهل فلسطين"، مثلما نقرأ على الموقع.
منصّات تطوّعية تهدف إلى توثيق وقائع الجريمة الصهيونية
تُخصَّص الخانة الأُولى من الموقع، للكاتبة والشاعرة الفلسطينية هبة أبو ندى (1991)، التي استُشهدت في العشرين من تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، في غارة إسرائيلية على منزلها في حيّ المنارة بخانيونس. حيث ينشر الموقع مجموع ما كتبته بين السابع من ذلك الشهر والعشرين منه.
في منشورها الأول بعد عملية "طوفان الأقصى"، وبدء العدوان الصهيوني، تنشر أبو ندى عند السابعة صباحاً: "ننامُ ونحنُ نفكِّر بأشيائنا العاديّة جدّاً، امتحانٌ ما بالجامعة، شراءُ قطعة ثياب جديدة، قلقٌ على التقديم لوظيفة ما، ثمَ فجأة يتغيّر صوتُ المنبّه، تُلغى الامتحانات، تُعلَّق المدارس والجامعات، ينبعث البارود من كلّ مكان، تتحوّل 'الجزيرة' للّون الأحمر، نفتح المذياع، التليغرام، نعيد جدولة كلّ الخُطط في رأسنا، في غزّة يتغيّر كلّ شيء في لحظة!". أما المنشور الأخير لصاحبة "الأوكسجين ليس للموتى" (2017)، فتقول فيه: "نحن في غزّة عند الله بين شهيد وشاهد على التحرير، وكلّنا ننتظر أين سنكون. كلّنا ننتظر اللّهم وعدك الحقّ".
يتضمَّن الموقع أيضاً نصوصاً للكاتب الشهيد نور الدين حجّاج، مؤلّف مسرحيّة "الرماديّون"، ورواية "أجنحة لا تطير"، والذي استشهد في قصف على حيّ الشجاعيّة في الثاني من كانون الأوّل/ ديسمبر الماضي. وممّا كتب نقرأ: "شاهدتُ كيف اختُزلت الألوان في لون واحد فقط، من أين للّون الرّمادي أن يمتلك سطوة الحُضور على كلّ الألوان التي نعرفها، إلّا لو كان محمَّلاً بأطنان من المتفجّرات!".
ويتابع: "مشيتُ فوق ركام كثير، وحاولتُ أن أتحاشى بخطواتي - مثل حقل ألغام – كلّ ما كان ذكريات لأطفال صغار رسموا أحلامهم فوقها. ولم أخَف من أن أُمسك بيدي أسلاك الكهرباء المتقطّعة في الشوارع، لأنّها لم تعُد سوى مشانق إعدام، شاهدة على كلّ هذا الدمار. شاهدتُ جبالاً من الأكفان تسير بهم سيّارة واحدة للمكان الآمن الوحيد والأخير على هذه الأرض. لا جنازات تحمل الشهداء على أكتافها وتزفّهم لمثواهم الأخير، لأنّ كلّ عوائلهم ترافقهم للقبر... شهداء مثلهم".
أمّا الشاعر الغزّي حسام معروف، الذي نزح إلى رفح وما زال يكتب من هناك، فيُتيح الموقع قرابة أربعين نصّاً عن يوميّاته في ظلّ الإبادة. ومنها ما كتبه بعد يومين من بدء العدوان: "أنا أكتب إليكم، ولستُ أدري هل سأستطيع أن أكتب منشوراً آخرَ أم لا، ردّة فعل الجيش المهزوم، المُهزَّأ، غير عاديّة. لقد أمدّتهم أميركا بسلاح ليس كسابقه، وكلّ ما يقومون بفعله، هدْمُ المنازل على رؤوس ساكنيها، واستهداف الأطفال والنساء، وهدم المساجد. أنا أكتب إليكم من وسط حرب مختلفة عن سابقاتها، وإمكانيّة أن ننجو هذه المرّة تبدو في غاية الصعوبة، الضربات تشتدّ على المنازل، والناس هنا في حالة بُهتان ممّا يحدث، لا أحد يستطيع أن يمنح الآخرين الأمان، حتى الأب لابنه الصغير، لأنه هو ذاته يفقده في هذه اللحظات".
ومن كتاباته في السابع والعشرين من تشرين الثاني/ نوفمبر، نقرأ: "طالما لم نعد إلى بيوتنا، لا شيء نشعر به، لا شيء يحمل قيمته، حياتنا محمولة ومقذوفة للأعلى، في كلّ لحظة نخاف عليها السقوط".
كتاباتٌ خطّها أصحابُها في لحظة فاصلة بين الحياة والموت
كما نقرأ لصاحب مجموعة "غزّة اليتيمة" القصصية (2015)، محمود جودة، الذي يكتب من رفح: "لا تنظروا إلى الأمّهات اللواتي يزغردن في الجنازات، هؤلاء نسوة أفرغن الدموع زغاريد، نسوةٌ طارت عقولهنّ مع أوّل نقطة دمٍ سالت من أجساد أولادهنّ الصغيرة. والله نحن بشر نحبّ الحياة ولسنا من جلمود الصخر، بل بشر من طين وماء والكثير من الكرامة".
وكان جودة قد نشر، في صبيحة السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، مقطعاً من روايته "حديقة السِّيقان" (2021)، تتشابه أحداثُه مع عبور المقاومين صوب الأرض المحتلّة، والاشتباك مع جيش الاحتلال. ومنه نقرأ: "خرجَت على أثرها السِّيقان والأقدام والأحلام والدموع التي ما زالت ساخنة، والأصابع والأشلاء المزروعة في الإطارات، وأخذت تتشكّل على هيئة جسم عظيم، جسمٌ له آلاف الأرجل والأيدي، والرؤوس والعيون، وراح ذلك الجسد العملاق يدبّ فوق الأرض مُعلناً بدء مسير العودة الحقيقيّ إلى البلاد المسروقة".
ويكتب أحمد مرتجى (1996)، الذي نجا من غارة إسرائيلية دمّرت منزله في الثامن والعشرين من تشرين الأوّل/ أكتوبر، وخرج من تحت الركام وواصل الكتابة: "نجوت من الخوف/ الموت للمرّة الثالثة أو الرابعة (لا أدري فعلاً العدد الحقيقي)، والنجاة هُنا ليست فعلاً أسطورياً. الشّخصُ الخائف الذي يحدّثكم ليس بطلاً خارقاً، ولا أسطورة تاريخية. هو شخص عاديّ جدّاً، لديه القليل من الأحلام البسيطة: أن أعود لإطلاق النِّكات الساذجة على كلّ شيءٍ يحدُث حولي، أن أكون شخصاً عاديّاً جدّاً لا أكثر. أكتبُ الآن وأنا أرتجف، ويحدث ذلك لأنّني أرتجف من البرد والخوف".
من يحدّثكم ليس بطلاً خارقاً ولا أسطورة تاريخية
يضمّ الموقع أيضاً قرابة عشرة نصوص من يوميّات الصحافية نور سويركي، التي نزحت إلى جنوبي القطاع، لكنّها لا تزال تقوم بتغطياتها في نقل وقائع الإبادة الصهيونية. تكتب: "بالأمس كان موعد تعديل الساعة، وكان أوّل يوم للتوقيت الشتوي، كنّا سنفوّت أوّل ساعة من الدوام، وكان أطفالنا سيرتبكون في مواعيد المدرسة، لكن لم يحدث ذلك قطّ... فوّتنا زماناً كاملاً خلال الـ21 يوماً... 'إسرائيل' لم تُعِد عقارب الساعة 60 دقيقة، بل أعادتها لنصف قرن على الأقلّ. دمّرت بلدنا الحبيبة وقتلت أحبابنا وقطعت تواصلنا عن العالَم تحت النار والقصف الشديد... بالأمس على الأقل سقط 500 شهيد".
وفي مقام آخر تكتب بالعامّية: "أنا همّي الوحيد أرجع... بشوف صُور للجيش والدبّابات في أماكن متل: الجندي، والبحر، والرمال، والصناعة... أنا بعرف إني بحبّ بيتي وبحبّ غزّة، من زمان بحكي والناس بضحكوا عليّا، كلّ ما أسافر وأرجع بدموعي عالمعبر، لأنّي اشتقت، بيقلولي أنت مجنونة شو بتحبّي في غزّة هاجري... بس أنا بحبّها كتير لدرجة قلبي مش قادر يستوعبها".
في إطار الكتابات التوثيقية أيضاً، بدأ "معهد دراسات المرأة" التابع لـ"جامعة بيرزيت" بنشر سلسلة باللغتين العربية والإنكليزية، عبر موقعه الإلكتروني iws.birzeit.edu/node/253، وحساباته على مواقع التواصل الاجتماعي، بعنوان "شهادات من غزّة"، بلغ عدد ما نُشر منها، منذ التاسع والعشرين من تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي حتى اليوم، أربع عشرة شهادة، توزّعت بين رصد أحوال النساء ومعاناتهنّ، وتبيان أنّ القهر الذي يتعرّضن له امتدادٌ للقهر الاستعماري الذي يمارسه الاحتلال في حقّ الشعب الفلسطيني.
في شهادتها، تصف الطبيبة في "مستشفى النصر للأطفال" سهير الحلبي حال القطاع الطبّي في ظلّ الإبادة، وكيف تحوّلت المستشفيات إلى ملاجئ، ومحاصرة الدبّابات لـ"مستشفى النصر" واستهدافه بالقذائف: "كنا نتقدّم خطوة للخروج، فيبدأ الاحتلال الغاشم بإطلاق النار، فنرجع خطوة، نتقدّم فيطلق، فنرجع، وبدأ باستعراضه في السماء وأطلق الفوسفور، حتى في اللحظة الأخيرة نجحنا بكلّ خوف أن نمرّ وبدأنا الخروج من المستشفى، خرجتُ وأوّل ما رأيتُه كان دماراً هائلاً قد أصاب الحيّ، كانت الدبّابات تصطفّ بجوارنا وتصوّب مدفعيّتها باتجاهنا، رأيتُ الشهيدَين وفي جانبهما الراية البيضاء".
أمّا الناشطة دعاء بديوي، التي عادت مؤخّراً إلى غزّة، عقب أربع سنوات قضتها في إسطنبول، واضطرّت للنزوح برفقة طفلتيها إلى رفح منذ بداية العدوان، فتكتب: "نحن بخير شكراً للعالَم الذي يمنحنا الخيارات، خيارات ما بين الموت السريع والبطيء. ما بين الموت عطشاً أو جوعاً. أو حزناً على ذكرياتك التي تهدّمت مع كلّ شارع تحفظ تفاصيل تفاصيله. أو منزل عشت فيه سنين طويلة وأصبح رماداً. ما بين أن يموت أحبّاؤك واحداً تلو الآخر أو أن تُمحى من الوجود أنت، وكلّ من هو من صُلبك. أو لعلّك بنهاية المطاف تنجو بنصف جسد، بنصف روح، بنصف قلب".
تُعبّر هذه الكتابات عن صوت نسويّ خاص في سرد التاريخ الراهن، وتشمل حضورهنّ في قطاعات التعليم والإعلام والصحّة والخدمات. ومن المشاركات في هذه الشهادات: الناشطة هيا عبد الرحمن أبو ناصر، والإعلامية مها أبو الكاس، والكاتبة براء حمودة، وفاطمة بشير، بالإضافة إلى نصوص أدبية للشاعرة والشهيدة مريم حجازي.
من المواقع الإلكترونية الأُخرى اللّافتة في هذا السياق: "حكايا غزّة" www.gazastory.com، وهو، مثلما يعرّف نفسه، "نافذة الذين تعرّضوا لإبادة جماعية على أيدي الاحتلال الصهيوني". نقرأ منه: "هنا فضاؤنا الذي نحفظ فيه روايتنا من طيّ النسيان وذاكرة المكان من سَلْب الاحتلال وتقاريرنا التي وثّقنا بها جرائمهم وأدبنا المقهور، والذي كتبناه بماء العيون... إلى روح الملهم الشهيد الدكتور رفعت العرعير".
يحتوي الموقع، الذي يشرف على تحريره الكاتب ياسر عاشور، على تبويب خاصّ يُمكن من خلاله للقارئ أن يُضيف شهادته الخاصّة، أو نصّه الأدبي، عبر كتابته تدوينة مُباشرة. بالإضافة إلى تبويبات أُخرى تُتيحُ مجالاً أكبر للنصوص الأدبية، وليس فقط للتوثيق اليومي.