صوت فلسطين وحصار الشاشات

09 يناير 2024
رجلٌ نصب خيمة فوق أنقاض منزله الذي دمّره القصف الصهيوني، رفح، 6 الشهر الجاري (Getty)
+ الخط -

المذبحة مستمرّة، الصهاينة فعلوا ويفعلون كلَّ ما تُدينه الإنسانية من قصف المستشفيات إلى استهداف الأطفال، وتدمير حياة مليوني إنسان بذريعة عملية نفّذها العشرات. "إسرائيل" مستمرّة في العقاب الجماعي ضدَّ الفلسطينيّين الذين تُركوا وحدهم في مواجهة حرب الإبادة. وهي حرب دعمتها سياسياً الخارجية الأميركية منذ الساعات الأُولى، واستمرّت أميركا بدفع الإمدادات العسكرية لجيش الاحتلال طوال هذه الأشهر.

لكن مع ذلك، مع ازدياد ضراوة وهمجية الاحتلال، ما يزال مؤيّدوه في الغرب يصوّرون الغزو الذي تتعرَّض له غزّة من قبل الصهاينة، باعتباره غزواً ضدَّ أقوام بدائية هُم الفلسطينيّون، أصحاب الأرض، وأصحاب التاريخ. وفي كلّ سجال يجمع متحدّثاً فلسطينياً يعي ويُدرك عدالة قضيّته مع تيّارٍ في الإعلام الغربي، يظهر الارتباك الغربي الذي صار طابعاً تجاه المذبحة التي ينفّذها الصهاينة. إذ يوجد تيارٌ في الغرب، يدرك أنه يدافع عن قتلة أطفال.

وقد أعادت حرب الإبادة خطاب التفوّق العِرقي الذي يعتقد بهِ تيارٌ في الغرب تجاه الشعوب الأُخرى. ولا أدلَّ على هذا الموقف من هجوم المذيعة البريطانية جوليا هارتلي- بروير على السياسي والأستاذ الجامعي الفلسطيني مصطفى البرغوثي في لقائه مع قناة "TalkTV". وهي تمنع عنه القول، وهي تضيّق عليه، وهي تهاجمه، وتحاصر مقولته وكلماته، ومساحته في التعليق. ثمَّ تقول له بأنَّه غير معتاد على امرأة تتكلَّم. وهذا تعقيبٌ أرادت المذيعة أن تدين بهِ ضيفها، لكنه تعقيب يشيرُ إلى الطريقة التي يرى فيها مؤيّدو العدوان المسألة كلّها. إنَّهم ينظرون إلينا، من موقع المتفوّق بالمعنى الحضاري، وحتَّى مع استمرار المذبحة الشنيعة، يعتقدون بتفوّقهم.

حتَّى مع استمرار المذبحة الشنيعة، يعتقدون بتفوّقهم

مع استمرار المذبحة ومع حقيقة المذبحة التي تنقلها الشاشات، ما يزال لدى مؤيّدي الغزو الهمجي تلك القدرة على ادّعاء التفوّق، حتى في المنظور الحضاري. فالمذيعة أرادت أن تقول للبرغوثي "أنتَ متخلّف. وغير معتاد على امرأة تناقش وتعترض وتجادل". ويكاد المرء لا يصدّق هذا القول المُبتذل، خاصة عندما يأتي ممّن يؤيّدون قتلة الأطفال، ممّن يؤيّدون استباحة المستشفيات واستمرار عمليات القتل الجماعي. 

بالتأكيد وفيما يرى مؤيّدو "إسرائيل" الجرائم التي يقوم بها الصهاينة، يقعون على فُصام. إذ الجرائم الإسرائيلية من الفظاعة، ومجانيَّة العنف، يصعب معها - ومهما كان المرء مُعبَّأً ومغيّبَ الوعي - أن يرى فيها سلوكاً حضارياً. ويمكن فهم المذيعة البريطانية لو أنَّها أضافت لحديثها، نعم نحن نقتل الأطفال، ونقوم بعقاب جماعي لمجموعة كبيرة من المدنيّين والأبرياء. ولكن لدينا انتخابات ونتيحُ للمرأة أن تتكلّم. هذه "الحضارة" التي أُمثِّلها. هكذا تكون جملتها مفهومة. هكذا يُمكن للمرء أن يفهم الفصام الذي وقع فيهِ تيارٌ متعصّب في الغرب. 

و"إسرائيل" بجرائمها عبءٌ على مناصريها، عبءٌ ثقيلٌ لأنَّها مع استمرار عمليات القتل لم تترك لدى مَن يُناصرها حجّة للدفاع عنها، حدّاً ذهبت فيهِ المذيعة إلى المُناكدة الفارغة. لكن بالفعل، هذا ما وصل إليهِ مؤيّدو العدوان. إذ لم يعد لديهم شيءٌ يقولونه للدفاع عن الوحش الذي قاموا بتغذيته بخطابات العنصرية والتفوّق. 

إلى جانب أن العالَُم صارَ مكشوفاً، القتلُ فيهِ يحدث لمجرَّد القتل. ولم تعد العنصرية تتوارى في خطابات ثقافية أو في روايات، وإنَّما نسمعها بكلمات مباشرة. كلُّ شيءٍ فجٌ وواضحٌ ومقروء؛ باعتباركم فلسطينيين، موتوا. باعتباركم عرباً، غارقين في الجهل، موتوا. أما بالنسبة إلى المنطقة العربية نفسها، فموتُ الفلسطيني يحدثُ وسطَ مآلات الربيع العربي. إذ يُقال للفلسطيني؛ مُتْ. لم نعد نحتمل عدالة قضيتك. مُتْ وحيداً في الفلاة، ونحن ننقل موتكَ عبر الشاشة. 

في الأحوال جميعها، الغرب ليس واحداً. إذ تعرّضت المذيعة البريطانية للكثير من الانتقادات بسبب سلوكها العنصري. ومطلوبٌ منَّا أن نجد سبيلاً لنقاشِ الغرب. ربّما نعزل الأصوات الذي تؤيّد المذبحة. 


* روائي من سورية

موقف
التحديثات الحية
المساهمون