هذا كلامٌ صعبٌ على الشِّعْر. سنقولُه إذاً بفَم الصِّحافي: إنّ مُلخَّص أميركا هو "المُجمَّع الصناعي العسكري". وأن تعيش مع واغِش كهذا، كمَن يعيش مع كوبرا في فراش النوم. هذه ليست طريقة حياة بأيّ معنى. وهذا ليس نحن: ليست فلسطين وحدها، تحت سحابة ذلك المجمَّع، بل الإنسانية كلّها تتدلّى من صليب حديدي معقوف. صعبٌ على الشِّعر الآن قولُ أمور كهذه. لهذا لا بدّ من تأكيدِها بالنَّثر البارد، مع حُسبان أنّ كلَّ رقمٍ يرِدُ هُنا، قديم. فأنياب الوحش لمّا تزل تُقطّع وتلتهم.
لنبدأ بمنطق ليل الإبادة، أوّلاً: لقد ألحقت مُعادلةُ المجمّع ذاك، بالسّاحل الجنوبيِّ من بلادنا، مستوىً من الضَّرر يُعادِل بعضاً من أسوأ القصف في حرب الغرب الثانية: دريسدن، وهامبورغ، وهيروشيما، وناغازاكي. فقط، في أوّل عشرين يوماً من العدوان، دمّرت قنابل (تُعادل ما لا يقلّ عن انفجارين في هيروشيما) مُعظمَ أنحاء القطاع. ناهيك عن تشريد مليونَي مواطن من أصل مليونين و400 ألف.
البيوت، لم يبقَ منها إلّا الخُمس سليماً، والباقي، ما بين تدميرٍ كُلّي أو جزئي، العوض بسلامتك. مئة ألف بين شهيد وجريح ومفقود. لا أقلّ من عشرات الألوف من المُعاقين والمعطوبين والسُّجناء. إيرادُ هذه "الأرقام"، لا يُناسِب نفسيّتي والله. وكلّما حدّقتُ فيها، أرتجفُ وأرغب في امتلاك ما هو أقوى من مجرّد خرُدة مفردات.
منذ قرون والإنسانية مسمَّرةٌ على صليب الغزو الغربي
لِمَ يتصرّف العدو هكذا؟
لسببين: أوّلهما أنّه تقليدٌ غربي. والثاني من أحشاء الأوّل، فالطريقة الوحيدة للقضاء على المقاومة، أيّ مقاومة، هي القضاء على حاضنتها الأهليّة: أيّ كلّ سكّان القطاع.
هذا بالضبط ما يحاولون، وعلى جُثثنا، لن يمرّ ولن ينجح.
ومع ذلك، يواصل البواسلُ القِتال وإلحاق أضرار جسيمة بهم: باستخدام الأنقاض كدروع، وبالخروج من الأنفاق، ومعهم إحدى أعظم وأبسط أدوات الحرب الحديثة: قاذفة القنابل الصاروخية، لإسقاط المُجنزرات فائقة التدريع.
ولمّا كنّا قرأنا عن مُعجزات "الفيت كونغ" (مع الفارق التاريخي)، فلدينا ثقةٌ بخيبة مسعى العدوّ، أمام استراتيجية حرب العصابات هذه، تماماً كما خابت مُرضعتُهُ في العراق وفيتنام وأفغانستان وكمبوديا، من قبل.
هذه عادة في التاريخ ليست حديثة، من حُسن حظّ المُقاتلين الفقراء: مُحال على الجبروت العسكري مهما تفوَّق، أن يقضي تقريباً على مُقاتلي حرب العصابات، خاصة إن تغطّوا بقاعدة كبرى من الدّعم الشعبي، كما هو حالهم اليوم.
وبعد؛ لنبدأ بمنطق الكوكب، ثانياً.
لقد جرى، منذ قرون، تسمير الإنسانية جمعاء على صليب الغزو الغربي. هذا، مع أنّ عالَم اللحظة لا تنقصه الأهوال، ويكفيه كارثة تغيُّر المناخ، التي تعيث بالفعل فساداً في جميع الأماكن. إنّ ذلك الغزو لَيعتاش على ثروات الجنوب: "يلطش" ترليونات الدولارات من عَرَق الفقراء، على حساب ضرورات معيشهم، كي يمسحهم من السجلّ الأرضي.
سيخيب العدوّ كما خابت مرضعتُه في العراق وفيتنام
واليوم، هناك دراسات تقول إنّ تحقيق صافي التلوّث الناتج عن الانحباس الحراري العالَمي بحُلول عام 2050، سيُكلّف 275 تريليون دولار على مدى 30 عاماً! أي ما يُعادل 9.2 تريليونات دولار سنوياً، أو 7.5 بالمئة من الناتج المحلّي الإجمالي العالَمي. وبالإضافة إلى ما يقرب من تريليوني دولار تُنفق سنوياً على الأصول المُنخفضة الانبعاثات، فإنّ هذا يتطلّب إعادة توجيه الإنفاق الحالي على الأصول كثيفة الكربون، وإضافة 5.3 تريليونات دولار سنوياً في الإنفاق الجديد. ومن الواضح أنّ قدراً كبيراً من هذه الأموال ينبغي أن يأتي من خفض الإنفاق العسكري.
إنّ النزعة العسكرية هي دائرة تتغذّى على نفسها: العنفُ يولّد المقاومة، والانتقام يولد مزيدَها. وفي الوقت الذي يعمل فيه أثرياء الشَّمال على تطوير أدوات متطوّرة وفعّالة لتدمير فقراء الجنوب، يتعيّن عليهم بالأساس أن يجدوا طريقة لكَسْر هذه الحلقة، إذا أردوا لهم ولنا البقاء ضمن الجنس الحيّ. إنّ النزعة العسكرية لن توفّر أي حلّ، لا في غزّة، ولا في أيّ مكان آخَر، بل لن تُؤدّي إلّا إلى استمرار دائرة العُنف، كما نرى ونسمع.
وعليه، لن يقتصر الأمر على عدم تقديم أيّ حلول للعالَم، بل إنّ العُنف يقف في طريق الحُلول التي نحتاجها بشكل عاجل. لقد حان الوقت لوضع حدّ لطريقة التفكير الإمبريالي، التي عفّى عليها الزمن. والتحرُّك نحو عالَم جديد ينعم بالسَّلام، وهو ما يتعيّن علينا أن نفعله فقراء وأثرياء معاً، من أجل بقاء الطّرفين.
لا شيء فوق الإنسان ولا إنسان دون إنسان آخَر.
هذه هي روحيّة ذلك الثالوث العالي: "الحقّ والخير والجمال"، عند فلاسفة الأرض القُدامى. وهذه أيضاً فحوى الأديان السماويّة، كما هي خُلاصة خطاب ماركس المُعاصر، حين أنزل ذلك الثالوث ـ بشكل عمودي ـ من سماوات التجريد، ومرّره، عمودياً وأفقياً، من قناة الاقتصاد، ليجدَ سبيله على أرض البشر، فلا يعود ثمّة مظلومون وطُغاة: محرومون ومُتخمون. تلك هي الرُّوحية التي يجب أن تُستدعَى، اليوم قبل الغد، لأنّ الجميع في مُسيّس.
لا شيء فوق الإنسان ولا إنسان دون إنسان آخر.
وحتى لو كانت السياسة غير المثال، ما همَّ: كلّ ليلة ننام كيفما اتّفق، ونحرص على وضع هذا المبدأ بين الرُّموش.
كلُّ ليلة ننام وبنا خيبةٌ عظيمة، من أن القارّ بين الرُّموش غائبٌ عن الأرض بالجُملة، وليس من أملٍ في استدعائه قريباً.
لا شيء فوق الإنسان ولا إنسان دون إنسان آخر.
إنّه سطر لم يُكتَب بعدُ في أُسِّ مدوَّنة "حقوق الإنسان"، التي كتبها القويّ، ونشرها بالزّور، في العام نفسه الذي سُرقت فيه بلاد وضُيِّع شعبها، منثوراً في أربع جهات الشتات.
كلُّ ليلة ننام مع خيبةٍ، يعقبها المُلِحُّ: أيُمكن التوفيق بين رأسَين بالحَلال (الرأسمالية و"حقوق الإنسان")، وهُما مُصطلحان غير متوافقَين جذريّاً.
ألَا ننظُر حولنا فنرى الوجه الكئيب ذاته، ثم نروح نفكّر بأشياء شتّى، يقف على رأسها هذا: إنّ مجرّد التفكير في تحقيق المُمارسة الكاملة لـ"حقوق الإنسان" في إطار النظام الرأسمالي، لهُو خطأٌ فادح وسذاجة مُطلقة من قِبَلنا، وهو، بالمقابل، خطأٌ في التقدير ليس عفويّاً، بل مقصود من جهة هيمَنة أصحاب النظام نفسه، المُفتقرين إلى كلّ تلك السذاجة، التي نحبُّها فينا ونحبُّ بعضَها عند كلّ الناس.
الغربُ وحقوق الإنسان، خارج حدوده.
آه، هو ذا كلّ العالَم يراها في فلسطين، كما لم يرَها من قبل.
متى تتحوّل المفردات إلى ما هو أقوى؟
* شاعر فلسطيني مقيم في بلجيكا