صفاء سالم اسكندر... لوحاتٌ تؤثّث الفراغ

19 ديسمبر 2021
(جزء من لوحة لـ صفاء سالم اسكندر)
+ الخط -

إنّها رسوم لكنّها تتطلّع لتكون لوحات، تتطلّع لتكون أكثر ممّا بقي منها، أكثر ممّا أبقتْه منها. أقول "أبقتْه" لأنّ من ينظر إلى أعمال الشاعر والتشكيلي العراقي صفاء سالم اسكندر سيشعر بأن اللوحة كانت، بالدرجة الأولى، في ما حذفته. إنها، بالدرجة الأولى، فيما أزالته. هذا الوجه الذي نراه هو ما تبقّى من الوجه، هو الوجه وقد استحال إطاراً فحسب، تخطيطاً لوجه. إنه وجهٌ مفرّغ، وجهٌ يُوعِز بما وراءه، أي بالوجه الكامل الذي لم يغدُ رسماً إلّا بما مُحي منه، وما مُحي هو تقريباً ملامحه كلها.

هكذا نقع على النموذج، على الوجه بالمطلق. هذا ما يبدو لأوّل وهلة، لكنّ النظر مليّاً إلى الوجه الذي بقي منه إطارُه يوحي لنا بأنه ليس أيّ وجه، ليس مجرّد نموذج. نحن ننظر إلى الوجه فنملكُ، بمجرّد النظر، علاقةً ما به، علاقةً خاصّة به. يغدو، وهو بهذا الشكل، جاراً لنا وصاحباً. بل قد نستشعر أن فيه ملامحَ مِن عندنا، نُضيفها إليه، أو نتوجّسها فيه.

صفاء سالم اسكندر - القسم الثقافي

هذا لأنّ الفراغ في لوحة اسكندر هو أساس اللوحة، بل هو مقوّمها الأول. هكذا يمكننا أن نقول إن لوحته هي نوعٌ من تأثيث الفراغ. يمكننا القول إنها استنطاقُ الفراغ في الرسم، أو إن اللوحة هي الهاربة إلى بياضها، بل هي البياض المفلت الذي يتكلّم أو يتكوّن في الداخل.

يمكن أن أتوقّف قليلاً عند كلمة "داخل". لوحة اسكندر هي، من ناحية أُخرى، هذا الانسحاب الى الداخل. إنها نوعٌ من العودة إلى الداخل، أو مداورة هذا الداخل واللعب به واللعب عليه. هكذا نصل أيضاً إلى مفتاح آخر لرسم اسكندر، وهو مفتاحٌ مفاجئ، بل يبدو معاكساً لما أوحينا به في صدْر هذه المقالة التي في كلامها، عن الفراغ والبياض والمحو، أوحت بما يشبه التسارّ أو المساورة، أوحت بالداخل وربّما بالعمق الذي يسم الداخل في العادة ويغلب عليه. لكنّ هذه المفارقة هي في أساس لوحة أو رسم اسكندر. إنها لهما في المقابل هذا التبسيط الذي يصل إلى حد اللعب. بل قد يتراءى لمشاهد هذه اللوحة أن في تقنيّتها وأسلوبها ما يشبه رسوم الأطفال. بل نحن هكذا أمام الاختصار والدائرية والتفريغ، السِّمات التي تطبع رسوم الأطفال أو الفن الطفولي. الطفولة بالتأكيد مرجعٌ أساسي في رسوم اسكندر، الطفولة التي هي مصدرٌ للفنّ الساذج أو اسم آخر له.

في رسوماته إيقاعيةٌ وتناغُم يجعلان منها جملة موسيقية

يمكننا، هكذا، أن نبحث عن الفنّ الساذج في رسوم اسكندر، بل يمكننا، بسهولة إذا ما استندنا الى هذه العناصر، أن نُلحق رسومه بالفنّ الساذج، لكنّ المفارقة تبقى هنا أيضاً. إن هذا الرسم مفرَّغ، لكنّه أيضاً، وربما بسبب تفريغه، ذو إيقاعية وتناغم. بل إن الرسم ـ اللوحة يكاد يكون، بسبب ذلك، جملةً موسيقية. إن التفريغ يخدم في هذه الناحية، وكذلك التبسيط والاختصار. أي أن طفولية لوحة اسكندر، وإذا كانت تُلحقه، على نحوٍ ما، بالفن الساذج، إلّا أنها بهذا الاختصار وذلك الحذف تكاد تتحوّل إلى إشارة، تكاد تكون، كما قلت، إيقاعاً.

هكذا، فإن ما في الرسم من صمتٍ ومحو وتفريغ يكاد يكون إيحاءً. أي أنه، ومن ناحية ثانية، لا يكاد يكون فحسب جملةً موسيقية، بل هو، بالإضافة إلى ذلك، يكاد يكون إيحاءً أو لمعة شعرية. هنا يمكن أن نعقد مقارنة بين رسوم اسكندر وبين الشعر. من هنا نفهم أن ما يبقى من رسومه، بعد الحذف والتبسيط، هو هذا الإيحاء، أي أنه مقابلٌ للشعر.

صفاء سالم اسكندر - القسم الثقافي

يمتلئ رسمه المفرغ بهذا الإيحاء؛ إن صمته يتكلّم هكذا، ومحوه وتفريغه ممتلئان بالإشارات والإيعاز. يمكننا من ذلك أن نعثر على اللوحة المختفية في الخلف، وفي أساس ذلك المحو والحذف والتفريغ.

يمكننا أن نقول كذلك إن ما يبقى من رسم صفاء سالم اسكندر هو هذه اللوحة المختفية. يكون هذا هو المعنى الذي يظهر منه في الرسم صمتُه وإيعازاته. يمكننا هكذا القول إن رسمه يبقى مقابلاً للشعر. إن التبسيط يتحوّل إلى إيحاء وإلى موسيقى وإلى ما يشبه بيت شعر أو قصيدةً قصيرة.


* شاعر وروائي من لبنان

المساهمون