استمع إلى الملخص
- تميز بكتابة ديوانين من قصيدة التفعيلة، لكنه أسس لقصيدة النثر التي حررت الشعر من القيود التقليدية، مما أتاح له التعبير بحرية.
- يُعتبر نموذجاً للسريالية العربية، حيث استخدم لغة قريبة من الكتابة الأوتوماتية، مما جعل شعره فريداً وصعب الفهم، ويظل موضوعاً مثيراً للدراسة.
رحل شوقي أبي شقرا وسط الانفجار اللبناني. مع ذلك، لم ينسلَّ خفية، شعَر الجميع أنّ هذا الوداع من علامات الوقت. في اللحظة التي لن يعود فيها لبنان نفسه، يبدو غياب أبي شقرا حصيلة ختامية لعالم لم يعُد، وللبنان في غروبه. هذا ما يجعل الخمسينيات وعداً خاب بالكامل، وها نحن نسترجعها من مسافة جدّ بعيدة. شوقي أبي شقرا، حركة شعر، جريدة النهار، والسريالية اللبنانية، كلّ هذه العناوين أصابها كسوف حقيقي. الآن لم يعد للبنان أولوية من أيّ نوع، ما كانه، من قبل احتفال لم يكن له فحسب، بل للثقافة العربية كلّها. مع ذلك لا تزال العناوين مادّة تاريخ، لا نعرف إلى الآن كيف نتدبّره وكيف نتعامل معه، لكن غياب أبي شقرا لا يزال يردّنا إليه.
شوقي أبي شقرا الذي كتب ديوانين من قصيدة التفعيلة، "أكياس الفقراء" و"خطوات الملك"، لم يكونا رغم الوقت الذي طغى عليه صعود قصيدة التفعيلة من النوع القريب من أشعار بدر شاكر السيّاب ونازك الملائكة وبقية شعراء التفعيلة. في هذه القصائد، حين نقرأها اليوم، لأبي شقرا لغة أُخرى أو شعر آخر. كان يؤسّس لـ قصيدة النثر التي انتقل إليها. مع أنّه لم يتابع قصيدة التفعيلة، فإنّ قصائده الموزونة لم تكن ضعيفة ولا ركيكة.
كانت قصائد مقفّاة بإصرار، لكنّ غناءها لم يكن ما درج عليه الشعر العربي، إذ ليس لها الطرب الحزين الذي نجده في هذا الشعر، ليس لها أيضاً الاسترسال الإيقاعي الذي يُميّزه، ليس فيها تراجيديته وحميميته. نقرأ مقطعاً منه: "إنّني في قرية العمر كمختار حبيب/ يطرد الجوع الغريب/ زوجتي طاحونة تفرك ظهري/ بيديها/ أنا حول الفقراء الفرح/ وطحيني دركي لا يغيب". لا بدّ أن هذا المقطع يردّنا، وإن قليلاً، إلى قصيدة أبي شقرا ومشروعه الشعري كلّه. هذه الزوجة الطاحونة وذلك الطحين الدركي، يذكّرانني بقصيدة النثر لدى أبي شقرا.
حرّر الشعر نهائياً من الموضوع، لم يعُد الموضوع عُمدةً في الشعر
يمكننا مع ذلك أن نفهم أنّ أبي شقرا في موزونه يُهيّئ قصيدة التفعيلة لغناء آخر، هو الذي واصله بعد ذلك في قصيدة النثر. ديوانان من شعر التفعيلة سبقا "ماء إلى حصان العائلة" أوّل دواوينه في النثر. يُطلّ المشروع الشقراوي من قصيدة التفعيلة، وإن بِقلّة. من ذلك يصل أبي شقرا إلى قصيدته في النثر. هنا أطلق مشروعه إلى آخره، لقد حرّر الشعر نهائياً من الموضوع، لم يعُد الموضوع عُمدةً في الشعر. صار الشعر يكلّم نفسه هنا، يتفتّح دونما معنى محدّد، وبخاصّة دون بُعد تراجيدي، ودون طرب من أيّ نوع. الصور هنا لا تملك مقابلاً، إنّها تتألّف من عملية اعتباط هائلة، إذ الشعر بلا قضية بالطبع، فإنّ ما يغلب هنا هو مجّانية كاملة.
الصور تتشكّل من تزاوج الكلمات، باستعدادٍ ما لهذا الارتباط، استعداد هو غالباً في الإيقاع. مع ذلك فإنّ هذا الضرب من الصور يميل أحياناً إلى الدعابة، إنّه في خلوّه التراجيدي يبدو دائماً طريفاً، ويبدو دائماً بمقدار من اللعب. العامية التي تتغلغل فيه، ومفردات السيرة الريفية، تحفظ له هذه الطرافة، وهذا القرب من الحكي. كان أبي شقرا في ذلك السريالي الأوّل، لغته تقترب في الغالب من الكتابة الأوتوماتية، بل هي أحد أمثلتها. هكذا يواصل أبي شقرا سرياليته إلى الأخير، بل يُمكن القول إن مؤلّفه نموذج حقيقي لسريالية عربية، لصنيع سريالي في اللغة العربية. ظلّ أبي شقرا أميناً لهذه السريالية، وفيّاً لها إلى الأخير. لقد أورثته لغته، وأورثته قصيدته، التي وصل فيها إلى الحدود القصوى.
يبقى شعر أبي شقرا لذلك معلّقاً متراوحاً، إنّه نموذج فريد، لكن فرادته تخفيه، وتجعله عسيراً على الفهم وعلى التواصل. مع ذلك، فإن ثمّة من يقول إنّ هذا قد يكون مطروحاً للمستقبل.
* شاعر وروائي من لبنان