شعرية إغواء القدر

06 فبراير 2023
هيلين الإغريقية ومينلاوس حاكم إسبارطة، رسم على إناء إغريقي من مقتنيات متحف اللوفر
+ الخط -

لَمْ يَكُنِ "القدرُ" دائماً حليفاً للإنسان، لذلك كثيراً ما نتلفّظ بهذه الكلمة المكتنزة مَصحوبة بِرَعشة كبيرة. لعلَّها الرَّعشة ذاتُها التي تنتابُنا أمام الكلمات الكبيرة مثل البحر، والهاوية، والشعر، والجحيم، والفردوس، والليل، والصحراء، والمَلاك، والمرأة. كلماتٌ قليلة، في أرض اللغة الواسعة، ومن بينها كلمة القدر، تجعلنا نتعثّر قليلاً، قبل أن نستأنف طريقنا مشمولين بِسِحرها، بطاقتها السرية الباعثة على الرَّعشة. 

هي ليست كلمات تتلاشى في الفضاء الواسع بِمُجرد كتابتها أو النطق بها، بل أحياز وُجودية هائلة تظلّ تَعمل بقوة مُثابِرة في كِياننا الهَش. نحن نَقرأ، في الواقع، لِلقاء بمثل هذه الكلمات، إذ على قَدْر تَوجُّسنا منها، يَمتدُّ جِسْرٌ خَفي يحملنا على اللقاء بها، وامتحان كياننا المُرجَف/ المرهَف أمام أهوالِها وتَرجيعاتها اللانهائية.

نَعزِلُ كلمة "القدَر"، في هذا التأمّل، عن بَنات جِنسِها، وكأننا نَعزلُ أنفسَنا، دُفعة واحدة، أمام المصير. ذلك لأنَّ عَزل هذه الكلمة/المارد، يُبقي، في الواقِع، على حيِّز سِرِّي تَتسلَّل مِنه كل بَنات جِنسِها الأخريات. فَكل مُواجهة شعرية/ وُجودية لـِ"القدر"، تجعلُنا - يا للهول - في مواجهة للكلمات/ الأحياز الوجودية الأُخرى، لأنها تستدعيها، وتبثُّ أنفاسَها الحارقة في جَوفها بقوة مُعجِزة. لا تهب هذه الأنفاس مِن رُؤية شِعرية حالِمة، تَستطيبُ العيشَ في ذُرى الكلمات وعلى ضفاف "المجلَّدات"، بل من تضاعيف وُجودية مَوصولة عَبر الدَّم الساخن بِشرايين الحَياة بنبضِها اللانهائي. 

فرديات تُغيِّر مجرى الأحداث والمسارات في التاريخ

أكثر من كلمة هو "القدر"، أكثر من دالٍّ مَوصول بمدلول اعتباطي. إنه الدالّ الأكبر المَنسوج من خلايا مُتفوّقة، غامضة، غير مقيّدة بأي حدّ، اللهم ما ينبعث منها مِن أفعال ذات طابع مصيري. أفعالٌ تُحدثُ الهزَّات، تنجز القطائع وتحول المسارات، فتَرفع وتُخفِض، تُعلي وتُسقِط، باعثة الرجفة والدموعَ طويلاً في الكائنات والمدن والأشياء والنباتات. هو لا يَنتظرنا فقط عند المُنعطفات الكبرى للحياة، بل يَقِفُ خلف فعل الولادة ذاِته، فيُنجز دفعته غير المرئية، التي تَجعلُنا نُحلِّق في سلام، أو نسبح بأذرُع عملاقة وسط الأنهار والبحيرات، أو نسقط بغتة من عُلوٍّ شاهق، مِثل كائنات إيكارية (نسبة إلى أسطورة إيكاروس) أذابتِ الشمسُ أجنحَتها المُستعارة، لأنها تجرَّأتْ على تجاوُز مُستحيلِها الشَّخصي.

أفعالُنا لا تَنِمُّ دَوماً عن إيمان وتسليم، بل تكشف أيضاً عن شيء من مُعاندة القدر (ذلك الإيمان الآخر). تلك خاصيتُنا الإنسانية. بقدر ما نتوجَّسُ ونخشى، بقدر ما نجرُؤ على الفعل والقفز مِن أعلى القِمَم. لا نقف مكتوفي الأيدي طويلاً، نَخُطُّ على الثرى ونَمحو، بل نُنصِت لِغريزة الحيوان فينا، فنُنجز القفزة الحضارية الهائلة.

ولا تكون النتائج مُتوقعة دوماً، بل هي تندمِج في حساب المُغامرة، التي تفتح الأحياز بكامل الاستعداد لدفع الثمن. مُخاطرة، في صميمها، تينع تلك البذرة الأُخرى للنجاة. ذلك النوع الآخر من النشوة، التي قد تحوّل الخسارةَ ذاتَها إلى ظفر. ثمة شيء من الجنون والمُقامَرة في الخطوة البشرية، التي تَجعلها خطوة لا تُعانِد القدر إلا بتسريع دورة الدم في كيانه المُخيف، فُتُشرَع، على هذا النحو، مصائر وتُبنى أقدار أُخرى.

لَوْ لَم تُنجَز مثل هذه الخطوات، لَاستكان الإنسانُ في بَيته الأول. لَما تَحرَّك التاريخُ ولما تأسستْ حَضارات وأعقبتها أخرى. لما جَرتْ آدابٌ وفنون في قلبها بحيرات وأنهار وغابات ومخلوقات عجيبة. لولا هذه المُعانَدة المُسرِّعة لتدفّق الدم، لمَا كانت حيواتٌ أرضية طافحة بالمُغامرة والسَّعي. لَقعَدَ الاِنسان دونما يَدٍ ولا قَدَم ولا قلب. دونما فِعل ولا شوق ولا حَنين. لَأُفرغ الإنسانُ مِن إنسانيته تماماً، واندفع مثل صندوق يَتقاذفُه السَّيل في مجراه المرسوم، قبل أن يلفظه كنفاية مِن النفايات. الخطوة المُعاندة، هي التي تُؤسس لأقدار بشرية أُخرى، تبدأ فيها أعيادٌ جديدة، وربما مآسٍ جديدةٌ أيضاً، لكنها تنطوي على ذلك السَّماد المُغذّي لِروح الصيرورة، ولِلوَعد الدائم والمُتجدِّد. 

الخطوة المُعاندة، هي التي تُؤسس لأقدار بشرية أُخرى

يَكون الإنسانُ قدَرياً بهذا المعنى المأساوي، الذي يَجعلُ مِن الجُرح إثباتاً لِلحياة في تَفجُّراتِها القصوى. لذلك، يَسعى الإنسان للخروج من قدرية إلى أُخرى. الخروج من قدرية الجبين (وما يَنكتِبُ عليه سلفاً) إلى قدرية اليد المُفكّرة، العامِلة، المُحوِّلة لِلمَجرى والسَّعي. يَدٌ عقلٌ وقلبٌ وأُذن وأقدامٌ في آن واحِد. هَذه اليد، هي التي تكتُب علاماتِها الأُخرى، العَنيدة، المُستعصية، الطافحة بالغموض والرعشة والوعد. علاماتٌ تنتزِعها من باطنِها العميق، لتكتبها بكل الرعشة المُمكنة. ولا تُتَرجم هذه الرعشةُ القوة والجلال والعِناد في قلب الإنسان، هذه القصبة المُفكِّرة، بل أيضاً الشكوك والهواجس المُقلِقة. 

هذه الرَّعشة هي ديدن الفكر والفن والأدب والموسيقى. تكبر كل التمثيلات الرمزية، تَشف وتعمق، بقدر ما تجعل منها مَهْداً ومِهاداً وملاذاً، يَحضن ويُغوي، يَستشف الأوفاق والأبعاد. ومنذ أنِ اكتَشف الإنسانُ هذه التمثيلات، سعى إلى تضمين نماذجها العُليا هذا العُصاب المؤسِّس، وهذه الرعشة المأساوية، المُنقِذة. كلُّ الملاحِم الرمزية الكبرى (أشعار/ روايات/ فلسفات/ مسرحيات/ موسيقات/ منحوتات/ لوحات وجداريات) تنطوي على هذه الرعشة التي تنفذ ولا تنفد بمُرور الأيام والعصور. رَعشة لا تُشخِّص فحسب، بل تَستشرف وتُعْدي، جاعِلة من التشخيص أفعالاً مُتعَدِّية تخترق حُجُب الحاضر نفسه. ما "يأتي ولا يأتي" هو جزءٌ من حيِّز هذه الرعشة، التي قد تكون اسماً آخَرَ للقدَر نفسِه، وليست صفة دالة عليه فحسب. 

ثمَّة نوعُ مِن جَدل الإرادة (أو الرَّغبة) في عَلاقة الإنسان بالقدَر. الإرادةُ ليست بالمعنى العاقِل دوماً، وإنَّما بِوصفِها طاقة إفراطٍ و"إلهام مَجاني"، مَجنون، يَندَفعُ نحو الفِعل بِشَهوة لا تُقاوَم. اندفاعٌ، يتشكَّلُ بِداخلِه عُصابٌ نُسمِّيه، استعارة عن بودلير: إغواء القَدَر (لا شك، أن الرعشة تتضاعف بالتلفظ بهذه العِبارة). فالقدَر ليس وحدَه يَسعى إلينا، في الدياجير، بوضع خطواتِنا على مسارات مرسومة (وإن تكن مجهولة)، بل ثمة فرديات متفوِّقة فينا ومِنَّا، تَسعَى بِدَورها، في لَحظاتٍ مَفصلية، إلى إغواء القدَر، بِجَعلِه يَندفِع في اتجاهات ومَصائر لَم تكن أبداً مَرسومة ولا مُتوَقَّعة. فرديات تُغَيِّرُ مجرى الأحداث والمسارات في التاريخ والاِجتماع والآداب والفنون. 

المَلاحِمُ والتراجيديات (الأشعار) الأولى شَخَّصَت هذا المَسعى. أليستِ المَعرفةُ الإنسانية، التي تُمتَحَن، وتُوضَع على المِحَك، في مُنعطفات سردية مُعيَّنة، تُشَخِّصُ هذا الإغواء (الخطير)، الذي لا مَفَرَّ مِنه، لِلقَدر. أليست مَعرفة أوديب وهي تتجاسر على حَلِّ اللغز الغامض تَشخيصاً مُخيفاً لهذا الإغواء؟ ألا يَنطوي جَدلُ الِافتتان (المحظور)، بين باريس وهيلين، على تشخيص كارثي لِإغواء ترتَّب عنه إحراق مَملكة بأكمَلِها؟ ألم يَكن فُجورُ مَشهَدِ الجِنس الجَماعي في القصر (أصبح في لحظة مِن كريستال) وَراء دَموية شهريار، التي سَتدفع شهرزاد إلى ابتعاث مَخزون هائل مِن الحِكايات العَجيبة لِعلاج الملِك مِن جُنونِه؟ أليس "إغواء القدر" نوعاً آخر من الجنون، يَرغبُ في تسطير صفحات غامضة، ومُخيفة، في كتاب سِري، لا يوجَد له أثرٌ في مكتبة العالَم.                


* شاعر وناقد من المغرب

نصوص
التحديثات الحية
المساهمون