"شرق وغرب" لفيديريكو رامبيني: في البُنية التحتية للسرديات المؤسِّسة

"شرق وغرب" لفيديريكو رامبيني: في البُنية التحتية للسرديات المؤسِّسة

08 نوفمبر 2022
فيديريكو رامبيني في مهرجان "أصوات الكتب" 14 تشرين الثاني/ نوفمبر 2021 (Getty)
+ الخط -

لا يُعدّ كتاب "شرق وغرب: حشد وفرد" الصادر عن "إيناودي" (2020)، كتاباً عادياً في مسيرة الصحافي الإيطالي البارز فيديريكو رامبيني (1956)، عضو "مجلس العلاقات الخارجية" في أميركا (Council on Foreign Relations)، وأحد أبرز صحافيي إيطاليا. بدأ رامبيني حياته المهنية أواسط السبعينيات صحافياً للحزب الشيوعي الإيطالي، وتنقّل لفترات طويلة بين عواصم غربية وآسيوية عدة، عمِل فيها مراسلاً لصحيفة "لاريبوبليكا"، قبل أن يستقرّ في نيويورك. ولعل كتاب "شرق وغرب" أتى نتيجة طبيعية لمسيرة حافلة قضاها الكاتب بين عالمين خبِرهما أكثر من أي صحافيٍّ إيطاليّ آخر، غير أن أهمية العمل تنبع من كونه يُشكّل، على الصعيد الفكري، منعرجاً مفصلياً في حياته.
 
للوهلة الأُولى يبدو الكتاب كأي إصدار تسجيلي، يحملنا صاحبُه من خلاله في رحلةٍ مع ذكرياته المهنية، وما اكتنفها من ملاحظات أنثروبولوجية، ومواقف إنسانية مرفقةً بتحليلات سياسية، ويستدعي معها محطّات من التاريخ، ليصبح كلُّ شيءٍ أقرب للريبورتاجات المألوفة لدى الصحافيين الغربيين، والتي تطغى عليها العاطفة بشكلٍ مقصود من أجل منحها الجُرعة الإنسانوية المُدرّة للدموع، وهي الوصفة الرائجة منذ سنوات في المكتبات الغربية.
 
لكن رامبيني المتمرّد كسر في كتابه هذه الصيغة ـ الكليشيه، وحرص على تقديم عمل قائم على حقائق باردة، لم يُرفقها بأيّ تعليقات شعرية، بل عزّزها بقراءات حاذقة في نصوص أدبية تأسيسية أعطَت الكتاب عُمقاً تحليلياً مسَّ البُنية التحتية للعقلين الغربي والشرقي معاً. وهكذا نجد رامبيني مباشرة في الفصل الأول المعنون "نحن الإغريق، هم الفرس"، يُضيء على الزاوية الدرامية الفريدة التي تناول من خلالها المسرحي الإغريقي إسخيلوس عمله "الفُرس"، وهو التراجيديا الإغريقية الوحيدة القائمة على حدث تاريخي حقيقي ـ لا على الميثولوجيا ـ وضع من خلالها الكاتب مقاربةً لا يزال الغرب يعتمدها إلى يومنا هذا في تعاطيه السياسي مع الشرق.

طرحٌ يُحرج النظرية النسوية بوجهها الأبيض والاستعماري

فبعد انتصار الإغريق على الفرس في معركة سلاميس الشهيرة التي شارك فيها إسخيلوس نفسه، كان يمكن لهذه الأخير، يقول رامبيني، تخليد هذا الحدث بعمل يمجّد قوّة شعبه من خلال الانخراط في بروباغندا وطنية وأناشيد حماسية كما هو دارج. غير أن المسرحي الإغريقي فضّل بدهاء اختراع شخصية ستبقى معنا إلى يومنا هذا، ألا وهي ديكي؛ إلهة العدل. ليصبح بذلك نصر الإغريق على الفُرس نصراً للعدل، وهكذا حوّل إسخيلوس صراع الإغريق الأبدي على الهيمنة السياسية والاقتصادية ضدّ الفرس، إلى حربٍ لنُصرة العدالة، وقد غدت الآن حرباً لنشر الحرية، يقول رامبيني. 

بهذه المقاربة، لم يسمُ إسخيلوس رمزياً بصراعات شعبه إلى مدارات تتعالى على المصالح الصغيرة و(الحقيقية) للدول فحسب، بل صنع نفقاً يُمكن التسلّل من خلاله إلى خطّ العدو الذي اختار إسخيلوس بمكرٍ عدم ازدرائه أو تحقيره، بل أظهر تعاطفه معه من خلال دعوته ضمنياً للانضمام إلى فريق "العدل". الطرح التجديدي الذي قدّمه إسخيلوس في عمله بإظهار التعاطف (المخاتل) مع العدوّ لم يمرّ مرور الكرام على النقّاد، لا سيما أرسطو الذي انتقد آنذاك "أنسنة" العدو في المسرحية، قبل أن تتحوّل هذه المقاربة اليوم إلى استراتيجية فعّالة في الحروب الباردة بين الشرق والغرب.
 
وفي هذه اللحظة، يترك رامبيني الكلمة للكاتب الإيراني عباس أمنات، ويقتبس من كتابه "إيران: التاريخ المعاصر" وصفه الجيش الفارسي الذي طالما أرعب جيوش الإغريق. خطّا دفاع رهيبان يتكوّنان من جنود ذوي لباس موحد لحرّاس الملك، وآخر للخط الأمامي، وكلاهما يملك قدرة على استنساخ نفسه على نحو غير مفهوم، إنهم "الخالدون"، مفردة سكّها الفُرس، فمبجرّد أن يسقط جندي في المعركة يعوّضه من الخطّ الخلفي جنديٌّ آخر دون أن يرِفّ له جفن على نفس الشكل والهيئة. جموع متشابهة "لا تموت" في خدمة فكرة واحدة يمثّلها الملك. نسقٌ رهيب لطالما أرعب الإغريق ذوي الجيش الضئيل المتكوّن من أفراد متمايزين، يقول رامبيني: "نعم طالما كان كلُّ شيء في الغرب يعتمد على التمايز الفردي، حتى آلهة الإغريق كانت مختلفة متعدّدة نَزقة". ألا يكفي لهزم أولئك "الخالدين" العمل على تحويلهم إلى أفراد متمايزين ذوي انشغالات صغيرة؟ 

بعد سقوط السرديات الكبرى غداة انهيار الاتحاد السوفييتي، وحتى أثناء الحرب الباردة، لوحظ احتفاء الغرب الخاص بسرديات الشرق "الصغرى"، التي تنهَل من قاموس "الصدمات النفسية" و"الهشاشة"، وحيث يختار المنكسرون، لحظة استفاقتهم من هزيمتهم الجماعية، التماهي مع المثل العليا لفريق "العدل" و"الحرية" على الجانب الآخر من العالم... ألم يكن إسخيلوس مسرحياً برتبة جنرال عابرٍ للأزمنة؟

رامبيني لا يزال يحفر عميقاً في كتابه، ويحدّثنا عن صورة الشرق المؤنَّث والساحر مقابل الغرب الرجولي والبطولي، في المخيال الإغريقي. لهزيمة هذا الشرق، لا بدّ من إعادته لحالته الرمزية الأُولى، أنثوياً شَبقاً تتمرّد فيه النساء على اللباس الموحّد الذي طالما أرعب الإغريق، ومعه على صورة الرجل الشرقي ذي السلطة المُطلقة الأشبه بإله، العدو الحقيقي للغرب.

وفي موضوع المرأة، يُفصّل الكاتب ويذهب بعيداً جدّاً من خلال الفصل الثالث المعنون "آسيا الأُنثى أو إمبراطورية الحواس". وهنا يذكّرنا الكاتب بأن فكرة كبت الأنوثة لصالح العقلانية فكرة فلسفية إغريقية بحتة، لا دينية كما قد يتخيّل البعض.

سلّعت ما بعد الحداثة ديانات الشرق وحوّلتها إلى "بيزنس"

ويلتقي في هذا الفصل رامبيني مع تنظيرات الحقوقية الأميركية ذات الأصول الباكستانية رفيعة زكريا في كتابها المدوّي الأخير "ضد النسوية البيضاء" Against White Feminism؛ في ما يخصّ أوهام النسويات الغربيات عن أمجادهن التحرّرية، مع أنهن كنّ وما زلن محض خادمات مطيعات لمؤسسات استعمارية ونيوكولونيالية، كما تفصّل الكاتبة باستفاضة. أما الصحافي الإيطالي فيؤكّد من ناحيته أنّ مفاصل الدولة الإسلامية كانت، في المقابل، تحكمها النساء من وراء الحُجب، مقتبساً من كتاب الطبيب الإيطالي نيكولو مانوتشي في وصف إقامته في سلطنة مغول الهند، وحديثه عن سلطة النساء الهنديات المسلمات في الحريم حينها: "المُحمديون يمضون أغلب الوقت مع نسائهن. هؤلاء هن من يتّخذن القرارات المصيرية في البلاط... كلّ مؤامرات الدولة، وقرارات الحرب والسلم وتعيينات المسؤولين تتم من خلالهن. إنهن الجهاز التنفيذي الحقيقي للحكم في السلطنة. جميع المسؤولين الكبار همُّهم الوحيد هو إيجاد امرأة قوية تحميهم، وأي قطع للعلاقات معها قد يؤدّي إلى نهايتهم...". 

نفوذ النساء المُسلمات وسلطتهن السياسية والعسكرية التي نقلها للغرب مانوتشي في القرن السابع عشر، قصَد رامبيني إيراد أمثلة عنها بالتفصيل مُحرِجاً نظريات النضال النسوي ضدّ "البطريركية المتجذّرة في العالم شرقاً وغرباً منذ بدء التاريخ"، وهي النظرية التي لا تصمد أمام أبسط تمحيص تاريخي، ذلك أننا لسنا سوى أمام أيديولوجية ذات أبعاد استعمارية موثّقة ترمي لفرض أجندات هيمنة متجدّدة على دول العالم الثالث باسم "التضامن النسوي العابر للحدود"، كما تستعرض ذلك بألمعية الكاتبة النيجيرية أوبيانوجو إيكيوشا في كتابها الأخير "أفريقيا المستهدَفة: النيوكولونيالية الأيديولوجية للقرن الواحد والعشرين" Target Africa: Ideological Neocolonialism in the Twenty-First Century.

الصورة
شرق وغرب - القسم الثقافي

العقلية الاستعمارية التي لا تزال تحكم العلاقة بين الشرق والغرب، لم يكن لها أن تسقط من كتاب الصحافي الإيطالي الذي تناول الموضوع في الفصل الرابع المعنون "الاستشراق الاستعماري"، وكان من اللافت تركيزه فيه على فكرة "هوَس" الشرقيين المغلوبين بتقليد وصفة العصرنة الغربية. حيث حرص الكاتب على نقل ملاحظات الصحافي الإيطالي إيدموندو دي أميتشيس، بعد زيارته إلى إسطنبول في نهاية القرن التاسع عشر، مُركّزاً على وضع النساء التركيات تحديداً، وحديثه عمّا سمّاه دي أميتشيس الهوس بتقليد الأوروبيين. "لقد كانت الفكرة السائدة تقضي بأن تحويل المجتمع التركي إلى مجتمع أوروبي لا يمكن أن يمر سوى من خلال المرأة"، يقول رامبيني. 

ولكن متى بدأت الشعوب الأُخرى النظر إلى الغربيين كنموذج يُحتذى به؟ في الفصل الخامس: "تغريب: تقليد البرابرة" يتعرّض الكاتب بالتفصيل لعُقد النقص التي بدأت بالتسلُّل إلى الشرق والمشاعر المتضاربة للخوف والإعجاب أمام أوروبا ذات القوّة المتزايدة، ولم يُغفِل الكاتب ظاهرة اعتناق الصينيين، في مرحلة معيّنة، الديانة المسيحية: "لقد كانت تلك ديانة المنتصرين، وكأن الفائز في اللعبة بين الحضارات يعني أنه يملك الربَّ الأقوى". مباشرة بعد هذا الإعلان، يبدأ الكاتب حديثه عن سطوة رأس المال، الدين الجديد الذي اعتنقه العالم شرقاً وغرباً، لدرجة تحويل ديانات الشرق إلى تجارة حقيقية في العقود الخمسة الأخيرة، "بيزنس" يقول الكاتب، حيث لم يعد البوذيون أنفسهم يتردّدون في تسليع روحانياتهم وبيعها في سوق ما بعد الحداثة الغربي. 

رامبيني، من موقع الصحافي المخضرم، يُهدينا عملاً يتسم بصراحة فريدة في ساحة النشر الإيطالية، بل العالمية، وذلك من خلال حقائق يُوردها بنبرة هادئة لكنها تهدم أسُس المُسلّمات التي ينبني عليها الفكر اليساري العالمي في السنوات الأخيرة. فإلى جانب تلميح رامبيني إلى مآرب الأجندات النسوية في الشرق، يُخبرنا الخبير الإيطالي في العلاقات الدولية عن سياسي هندوسي مُتطرّف، حصل أن شاهده وهو في زيارة إلى الهند، منهمكاً في التحريض على قتل النساء المسلِمات. ليضيف بعدها رامبيني جزئية أوردها بنبرة باردة: السياسي الهندي المذكور هو مناضل تقدمي عمل سابقاً في "منظمة العفو الدولية" Amnesty International، و"غرينبيس" (منظمة السلام الأخضر). لم يتوقّف الأمر هنا عند رامبيني، وضمن ذات الفصل المُعنون "الصين والهند وتصفية حسابات مع الإسلام"، لم يفوّت الكاتب الإشارة إلى أن زملاءه الأميركيين في ذات الرحلة، التي حملتهم جميعاً لتغطية زيارة ترامب إلى الهند حينها، اختاروا في تغطياتهم الإيحاء للجمهور الأميركي بأن الأعمال العدائية التي عرفتها الهند خلال تلك الزيارة سببها ترامب!

فضح الأكاذيب وأدوات التدليس التي يعتمدها الغرب حالياً لخداع الشعوب الغربية قبل الشرقية، يبدو أنها كانت الرسالة الأولى لكتاب رامبيني الجريء، والذي تنبع أهميته من أن الصحافي كان يُعتبر، إلى غاية كتابة هذا العمل، من أبرز مثقّفي اليسار الإيطالي، وهو ما حرص على تذكيرنا به هو شخصياً مؤكّداً أنه كان ذلك "الشيوعي الثوري أيام السبعينيات". وقد بقي رامبيني إلى غاية وقت قصير من ألمع أقلام أكبر يومية يسارية في إيطاليا "لاريبوبليكا" وأكثرها مصداقية، قبل أن يقدّم استقالته منها عام 2021 ـ أي بعد عام من نشر هذا العمل ـ ويمرّ بعدها لـ"كورييري ديلا سيرا" (صحيفة ليبرالية تعلن حيادها السياسي وهي الأكثر مبيعاً في إيطاليا). وكان ذلك أيضاً بعد نشره بعامين كتاب "ليل اليسار"، منقلباً على تيار أيديولوجي أصبح يمثّل "الاستبلشمنت" بتعبيره. وهكذا أتى "شرق وغرب" عملاً للتاريخ، سلّمنا فيه رامبيني مفاتيح تفكيك البُنية التحتية المؤسِّسة لسرديات الإعلام السياسي والاجتماعي المتخصّص بعلاقات الشرق والغرب، وكاشفاً، من موقع الخبير في صناعة الإعلام، عن الأدوات التنظيمية والدعائية لأرباب هذه الصناعة على الأرض. 

بعد هذا الكتاب وقبل أشهر قليلة فقط، صدر لرامبيني "انتحار غربي" الصادر عن "منشورات موندادوري" (2022)، وهو كتاب انتقل فيه الكاتب من مرحلة التلميح إلى التصريح: "الغرب يعيش حالياً أسوأ كارثة يمكن أن تمرّ عليه"، يقول الكاتب في مقدّمة عمله الأخير: "أوروبا غدت حبيسة أيديولوجية هي أخطر من أشد الديانات تطرُّفاً".


* روائية جزائرية مقيمة في إيطاليا

المساهمون