يخطر عن حقّ أن مشروع شذا شرف الدين، الذي يبني على نصّ كافكا "رسالة إلى الأب"، لا يتّصل من قريب أو بعيد بمضمون هذا النص. النصّ الكافكاوي يعني شذا بكتابته وتشكيله الورقيّ فحسب، ولا يمثّل مضمون النصّ ـ الذي هو محاكمة لعلاقة كافكا بوالده ـ أيّ شيء في معرض شذا المستمرّ حتى الثلاثين من الشهر الجاري في "مركز مينا للصورة" ببيروت، حتى إن قراءته ليست ضرورية للمتفرّج.
مع ذلك، لا يسعنا إلّا أن نفكّر في أن اختيارها لهذا النصّ بالذات، وقراءته التي لا تظهر في المشروع، لا ينفصلان بالكامل عنه، وإنْ لم يكن ذلك جليّاً في عمل ليس سوى نسْخ صفحات النص، الألماني كما العربي، كلّ نصٍّ على صفحة واحدة، ثم نسخ النص الألماني على عشر صفحات، وكتابة مخطوطة طويلة هي عبارة عن نصّ افتراضي لشذا، هو نصُّها هي، ورسالتها الشخصية إلى الأب.
من هنا نعود إلى مضمون النصّ الكافكاوي، فرسالة شذا إلى الأب، وإن كانت هي الأخرى عبارة عن كتابة غير مقروءة، تردّنا، على نحوٍ ما، إلى مضمون نصّ كافكا الغائب، وتضعنا أمام قراءته ومضمونه. إذ ليست رسالة شذا الافتراضية سوى ما بنته على نصّ كافكا، الذي، في هذه الحال، يمكن أن يكون كلماتٍ وبلا مضمون. مضمون النصّ الكافكاوي الغائب حاضرٌ على نحوٍ ما، وبخفاء تامّ، وعلى نحو يضعه وراء النص، في رسالة شذا الافتراضية.
صفحات تتحوّل فناً لا يتطلّب سوى مشاهدة كلمات صارت تمتمة
هنا يكون نصّ كافكا افتراضياً هو الآخر وحاضراً بهذه الصفة في العمل كلّه. هنا لا يمكننا إلّا أن نعود إلى النصّ الكافكاوي الذي هو ـ بدون أن يحضر ـ ماثلٌ في العمل، ويبدو من خلفه وحوله. وهنا يمكننا أن نفترض قراءة عربية للنصّ الكافكاوي، الذي لم تستدعه شذا ولم تبنِ عليه نصّاً مقابلاً. هذا النصّ، إن لم يكن حاضراً في خفاء العمل، ليس موجوداً فقط كنصّ ألماني، بل أيضاً كقراءة عربية وربّما لبنانية.
فالأرجح أن الأب الألماني قريبٌ جدّاً الآن من الأب العربي، بحيث يمكن أن نبني عليه رسالة عربية إلى الأب. رسالة شذا، التي هي على رولو يبلغ طوله خمسة أمتار، قد تكون لذلك مسهِبة وشخصية، وتقابل، من ناحيةٍ ما، النصّ الكافكاوي. هكذا نفهم كيف حاكت شذا كافكا وكيف نصّت، على غراره، رسالتَها الى أبيها. هكذا ينضاف النصّ ومضمونُه إلى العمل، ويغدوان أساساً فيه، وإن يكنْ ذلك من بُعد. هكذا تكتمل الحَكايا ويغدو النصّ الألماني والنصّ العربي والنصّ الشخصي لكلّ منها خصوصيّتُه ودلالته. بل يغدو للمضمون الغائب في العربية والألمانية، ليس فقط حضوره الأقوى، وإن من خارج العمل ومن وراءه؛ ليس حضوره فحسب، بل وحكايته الخاصّة، بحيث إن النصّ الألماني يبقى مجرّد نموذجٍ أوّل يُعاود حياته في العربية التي يجد معها أصولاً أخرى، وقراءة خاصّة.
هنا تكديسٌ للصفحات، عشرات منها في صفحة واحدة، بحيث تزول الكلمات ويتداخل بعضها في بعض في رسالة الى الأب، لكنّ الصفحة التي تنتج من ذلك هي أيضاً لا تزال "رسالة إلى الأب"، بل إنها أكثر، وكأنّ زوال الكلمات ومعانيها ترك على الصفحة قوّتها وفعلها. فما نراه في هذه السطور الممحوّة المتداخلة، هو تقريباً المعاناة التي تتحوّل إليها الكلمات والسطور. ما يبقى في الصفحة الواحدة هو الأوامر والوصايا، وهو أيضاً ما تتّسع له لغاتٌ ممحوّة، لكنها مع ذلك باقية بمعاناتها، باقية بتلك السلطة الأبوية الضامرة فيها، باقية بقوّة هذه السلطة وحضورها في ثقافات متعدّدة بتعدد لغاتها. في الصفحات المتعدّدة المفترضة في العربية، والرولو الطويل بالعربية أيضاً، لا نجد سوى هذا الفيض من السلطة، سوى الأب، حاضراً ومديداً ومتنوعاً.
يمكننا بهذا الإحساس أن نرى الرولو الطويل وأن نقابله هكذا بالنصّ الألماني المفترَض. صفحات شذا هي عبارة عن تكديس لصفحات مكتوبة. إنها فنّ يصدر عن موادّ للاستعمال غير الفني. إننا أمام ما يشبه البوب، بل نحن لا نني هنا نفكّر بالعلَم الأميركي الذي حوله جاسبر جونز إلى فن. بقيت الصفحات المكتوبة بخطّ اليد كما هي، لكنها لم تعد سوى صفحات مكتوبة، لم تعد معروضة للقراءة بأيّ من لغاتها. لقد استحالت فناً لا يتطلّب سوى الفرجة، سوى النظر وحده، سوى رؤية الكلمات وقد تحوّلت إلى نمنمة وإيقاع، إلى فنّ فحسب.
الكلمة غير المقروءة تبدو وقد احتفظت بشكلها الخالص، كأنها لا تزال في قدرتها على أن تحوّل المعنى المحذوف إلى إيقاع لا يزال يُبطن المعنى الغائب. لا تزال قادرة على أن تكون هي الكلمة فحسب، وأن تكون للكلمة المفقودة موسيقاها، بل أن تكون فقط تلك الموسيقى الباقية من معنى مفقود، الكلمة التي لم يبقَ لها من ماضيها سوى لحنه، سوى وحيه. إنها الموسيقى التي صارت، دفعةً واحدة، الشكل كلّه بما في ذلك المعنى الغائب نفسه، المستمرّ في لحنه، المستمرّ إيقاعاً وحروفيّةً بلا نسَب واضح، حروفيّة للغة في المطلق وقد صارت أنموذجاً ومثالاً.
ها نحن أمام الرسالة وقد صارت أنموذجاً أو مثالاً، أمام الأب وقد صار أيضاً أنموذجاً وشكلاً والسلطة التي، في غياب الكلمات وتحوُّلها، هي سلطة مطلقة بمعنى وحيد وصارم. أي أننا أمام كلّ ذلك وهو لم يعد سوى فن.
* شاعر وروائي من لبنان