سينما "من أجل الإبادة": سلامٌ لكن ليس للفلسطينيّين

23 فبراير 2024
دمية بين الأنقاض في مخيّم النصيرات وسط قطاع غزّة، 22 شباط/ فبراير 2024 (Getty)
+ الخط -

كلُّ المعاني الجميلة لمَظاهر الديمقراطية الغربية التي كان الإنسان العربي، أو من ينتمي إلى الجنوب عامّة، يشعر بالغبطة عندما يُسمح له أن يكون جزءاً منها، أو حين يحصل على دعوة إلى أحد مهرجاناتها، أو يُحصّل تمويلاً لعمل ثقافي من إحدى مؤسّساتها... كلُّ تلك المعاني وُضعت، منذ حرب الإبادة المستمرّة على غزة، تحت المجهر، وباتت عرضةً للاختبار الدائم وإعادة التفكير.

يَطرح أبناء الجنوب الكبير، اليوم، أسئلة مشروعة للتحقّق من مصداقية هذه المفاهيم وصلاحية هذه المؤسسات والجهات للدفاع عن الحقوق المدنية وحقوق الإنسان، بعدما فشلت كلُّها في إيقاف حرب إبادة الغزيّين أو حتى التخفيف من حدّتها، بل تَبيّن أنّ أغلبها متواطئ مع هذه الحرب؛ إذ صارت تُلغي الفلسطينيّين وتمنع مشاركتهم في حقّهم الديمقراطي للحديث عن أنفسهم، وتُصرّ على استضافة شخصيات سياسية تدعم العدوان.

يوم الاثنين الماضي، أثارت مؤسَّسة "سينما من أجل السلام" في برلين موجة غضب، حين استضافت وزيرة الخارجية الأميركية السابقة هيلاري كلينتون، للحديث عن "الحرّيات" و"الديمقراطية"، وللدعاية لشركة إنتاج أفلام تُديرها مع ابنتها تشيلسي كلينتون، وأيضاً لتكريمها عن "عملها في الدفاع عن السلام والديمقراطية في جميع أنحاء العالَم، أوّلاً كسياسية منذ عقود من الزمن، والآن من خلال شركتها للإنتاج السينمائي 'هيدن لايت'، التي تأسّست بالتعاون مع ابنتها تشيلسي"، حسب ما جاء على الموقع الإلكتروني للمؤسَّسة.

تتنكّر المؤسّسة لحقوق الإنسان وتروّج لدعاية الاحتلال

وشاركت المؤسّسة في تقديم وعرض أوّلا فيلم وثائقي أنتجته شركة كلينتون عام 2023. فـ"سينما من أجل السلام"، ومثلما تُعرّف نفسها، هي مؤسَّسة غير ربحية تُعنى بتمويل ودعم المشروعات السينمائية المتعلّقة بـ"المسائل الإنسانية وقضايا الحرّيات"، والمشاركة في تقديمها وعرضها ضمن مهرجانات وندوات تقيمها في مقرّها ببرلين وأماكن مختلفة حول العالم.

ولم تمرّ توصيفات المؤسَّسة للأدوار السياسية والثقافية المزعومة لكلينتون مرور الكرام؛ خصوصاً حين استغلّت السياسيةُ الأميركية تكريمها ومقابلتها في هذه المنصّة لتُكرّر الدعاية الإسرائيلية بأنّ هجمات السابع من تشرين الأوّل/أكتوبر كانت "أكبر اعتداء على اليهود بعد الهولوكوست"، وأنّ "لإسرائيل الحقّ في الدفاع عن نفسها"، وتقول أيضاً إنّها "غير متفاجئة" من العدد الضخم لضحايا الحرب على غزّة، لأنّ "هذا من طبيعة الحروب".

قوطعت كلينتون سبع مرّات من قِبل نشطاء مناصرين لفلسطين كانوا موجودين في القاعة، وواجهوها بحقائق ما يجري على أرض فلسطين من قتل وتجويع وحصار؛ حيث هتفت إحدى الناشطات: "إسرائيل لا تدافع عن نفسها، بل إنّها الإبادة الجماعية التي تموّلونها"، وأضافت، بينما حاول رجال الأمن - كما يحدث دائماً في مثل هذه المواقف - إسكاتها وإخراجها من القاعة: "الآن تتحدّثين عن السينما من أجل السلام. نحن نشاهد سينما الإبادة الجماعية... فلسطين حرّة".

وعبّر النشطاء عن اعتراضهم على استمرار المؤسَّسات والأكاديميات الألمانية في دعوة الشخصيات السياسية والثقافية التي تُروّج لدعاية الاحتلال، بينما تمتنع عن استضافة أيّ شخصية فلسطينية أو مدافعة عن الحقّ الفلسطيني، في تنكُّر صارخ لكلّ القيم التي تدّعي الدفاع عنها ونشرها حول العالم.

ذلك ما عبّرت عنه ناشطة حضرت اللقاء؛ إذ كتبت عبْر صفحتها على إنستغرام: "لن نسمح أبداً للأمم الغربية الإمبريالية بأن تجعل الإبادة في غزّة أمراً عادياً ومقبولاً"، وأضافت مُخاطبة كلينتون: "لن نسمح لكِ أبداً بأن تَصلي بكامل تأنُقك على متن طائراتك وسياراتك الفخمة، لتعِظينا حول حقوق الإنسان، بينما تشاركين في أكبر الجرائم بحقّ أناس أبرياء".

ولم يكتف أغلب المعلّقين على الفيديو المنتشِر للمقابلة بالتعليق على استضافة كلينتون وأسلوبها في الحديث عن الوضع الحالي في فلسطين، بل أشاروا أيضاً إلى بعض الحاضرين ممّن يُحسبون على الليبراليّين الجدد، والذين يديرون أعينهم ويُظهرون امتعاضهم وضيقهم من هتافات الناشطين المندّدين بحرب الإبادة ويطالبونهم بالسكوت ومغادرة القاعة. وقد رأوا في هذا السلوك إصراراً لدى طبقة واسعة من المشاركين على البقاء داخل فقاعات سياسية وثقافية تتبنّى رواياتهم بالكامل، وإصراراً على الاستماع إلى طرف واحد، وعدم فتح المجال حتى للنقاش وتبادل الآراء.

لا مكان لغزّة في مكتبتها الخاصّة بأفلام الإبادة الجماعية

ومن المفترض أن مؤسَّسة "سينما من أجل السلام" مهتمّة باستضافة ودعم المشروعات السينمائية الجريئة، التي تحارب الديكتاتورية وقمع الحريات؛ فقد استضافت ودعمت، على سبيل المثال، عدداً من الناشطين المعارضين للنظام الروسي، بل أنشأت سنة 2011، من خلال الصندوق التابع لها جمعيةً سمّتها "مكتبة أفلام الإبادة الجماعية"، وهدفُها تتبُّع قصص الناجين من ضحايا التطهير العرقي في البوسنة والهرسك، بينما يغيب تماماً ذكر الإبادة التي يتعرّض لها الفلسطينيون في غزّة، وأكثر من ذلك تدعو المؤسّسة سياسيّين يدافعون عن الإبادة ويبرّرونها.

على موقعها الإلكتروني، تقتبس المؤسّسة عبارات إشادة من الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس حين أرسل مهنِّئاً بمرور عشرين عاماً على تأسيسها: "أنا سعيد بأن أُرسل تحياتي لفريق 'سينما من أجل السلام' وأهنِّئهم على مرور عشرين عاماً على تفانيهم وعملهم الشاقّ للدفاع عن حقوق الإنسان والعدالة". لكن القائمين على المؤسّسة غير مهتمّين بما قاله غوتيريس نفسه منذ الأسابيع الأُولى للعدوان على غزة عن تدهور الوضع الإنساني في القطاع والمخاطر الجسيمة على سلامة أكثر من مليونَي شخص، وبتحذيره من المجاعة وآثار العقاب الجماعي للمدنيين الأبرياء.

المساهمون