سيرة مقتضبة لملاكم فلسطيني في الدنمارك (1-2)

29 مارس 2022
بلال العيسى
+ الخط -

حقّق "نادي فولسموسه للملاكمة" (Vollsmose Boxing Club) نجاحاً كبيراً، إذ هو اليوم أحد النوادي التي تضمّ أغلب ملاكمي المنتخب الوطني الدنماركي (بمجموع خمسة ملاكمين)، فيما يشغل أحد مدرّبي النادي منصب مدرّب المنتخب الوطني الدنماركي للناشئة. عدا النجاح الذي حقّقه النادي، فالملاكمة في "فولسموسه" قد خدمت العديد من الملاكمين الحاليين والسابقين، بمَن فيهم كاتبُ هذه السطور، من خلال تبنّيهم قِيَماً وسلوكيات قويمة وثقافة صحّية.

كان عمري 12 سنة حين دخلت لأول مرة في نادي الملاكمة. كان صديقا الطفولة، طارق وأحمد، قد سبقاني بأشهر قليلة، وكانا قد حدّثاني كثيرا عنه، الأمر الذي وجدته مثيراً. في ذلك الوقت كنتُ قد توقّفتُ منذ مدّة عن لعب كرة القدم: لم أحبّها كثيراً، وللحقّ، عليّ الاعتراف بأن المجالات التي تتطلّب التعاون والعمل التشاركي لا تناسبني كثيراً، فأنا أفضّل في الغالب أخذ القرارات بنفسي. علاوة على أنّني، ولمرّتين في الأسبوع، كنتُ أذهب مع والدي وأخي الصغير للسباحة في المسبح الذي أنشأته جمعية الفلسطينيّين المحلّية في فولسموسه. عموماً، كان الآباء الذين يأتون بأطفالهم إلى المسبح فلسطينيين. كالعادة يقوم الآباء بجولة أو جولتَيْ سباحة، ثم يجلسون في الساونا يتبادلون الأحاديث، بينما كنّا نحن الأطفال نلعب ونمرح ونشاغب. في ذلك الوقت كانت تلك الهواية الوحيدة التي كنتُ أزاولها في وقت الفراغ. لم يكن هناك من شيء لأفعله خلاف ذلك، على الأخصّ في أيّام الخريف والشتاء الباردة، حيث الشعور بالملل يملأ باقي يومنا ما بعد الدوام المدرسيّ، وبمقدارٍ أكبر في العطل الأسبوعية.

عندما دخلت نادي الملاكمة، كان ألي أوّل مَن رحّب بي واستقبلني. كان لاعبَ تايكوندو سابقاً، من المناضلين، وقد أخبرني بزهوٍ كبير عن تفوّقه في ذلك. لسوء الحظّ، حالَ مرض الضمور العضليّ دون مواصلته اللعب. كان يواجه صعوبة في المشي، وقد أصبح اليوم مشلولاً تقريباً في جميع أنحاء جسده. ولكنْ، منذ ذلك الوقت، أصبح من المعجبين جدّاً بالملاكمة، وراح يراقب كلّ التدريبات في النادي، ويحضر أغلب مبارياتهم في أودنسه. في ذلك الوقت، كانت معرفتي الوحيدة بالملاكمة تقتصر على الأسطورة محمد علي، الذي تحدّث عنه الكثيرون، لكنّه كان أكثر من أسطورة، لأنني لم أرَ أيّاً من مبارياته يوماً، وفي تلك الأيّام لم يكن بالإمكان مشاهدتها على "يوتيوب".

كنت أستيقظ منتصفَ الليل لمشاهدة بطل العالم نسيم حامد

بالإضافة إلى ذلك، فأنا أتذكّر جيّداً كيف استيقظنا، أنا ووالدي، منتصفَ الليل لمشاهدة بطل العالم اليمني البريطاني نسيم حامد، المعروف بـPrince، وهو ينتصر في مبارياته الكبيرة في الولايات المتحدة. كان مثيراً لاهتمام العرب بشكل خاصّ، لأن جذوره عربية، وكان كثيرون فخورين به جدّاً. بالإضافة إلى ذلك، أتذكّر بوضوح أيضاً معركة مايك تايسون ضد إيفاندر هوليفيلد في حزيران/ يونيو 1997، عندما كان تايسون تحت تأثير حالة من الإحباط أصابته حين عضّ أذن هوليفيلد وقطع جزءاً منها ــ تلك المباراة شاهدناها أيضاً على الهواء مباشرةً في الرابعة ليلاً.

على الرغم من أن والدَيّ كان لديهما بعض المعرفة بالملاكمة، إلّا أنهما كانا قلقين حيالَ اختياري لهذا النوع من الفنون القتالية والتي كانت برأيهما عنيفة جدّاً. كانت والدتي أكثر تخوّفاً من والدي. لكنّ هذا القلق وعدم الرضا اللذين شعرتْ بهما في البداية ليسا بالشيء الكثير مقارنةً بانطباع والديّ الذي عبّرا عنه حين بدأتُ مباريات الملاكمة لأوّل مرة. إذ حاولا، ولفترة طويلة، إقناعي بالتوقّف والتركيز على المدرسة بدلاً من ذلك، لكنّني كنت عنيداً وأصررت على أن هذا هو ما أريده، إذ كنت حينها قد أحببتُ الملاكمة ولم يكن ثمّة طائل من النقاش في الأمر.

في وقت مبكّر من الدراسة، كان قد تمّ تصنيفي من قِبَل كلٍّ من إدارة المدرسة والعديد من المعلمين كولد مثير للمتاعب. أعترف بأنّني كنت من المشاغبين. على الأخصّ عندما أكون برفقة زميلي في الصف، والذي كان يُدعى أيضاً بلال. على الرغم من أنّنا لا نحمل أوجه شبه فيما بيننا، فقد أُطلِقت علينا تسمية التوأم، بسبب اسمَيْنا وسلوكنا في المدرسة. أتذكّر بوضوح، على سبيل المثال، تلك المرّة حين اضطررنا، أنا وهو، للذهاب "فجأة" إلى دورة المياه في نفس الوقت أثناء درس اللغة الإنكليزية. صاح بنا المعلم لكي نعود، لكنّنا تجاهلناه كالمعتاد وبدلاً من ذلك اتّفقنا على الخروج إلى الساحة ولعب كرة القدم. في الطريق عبر الممرّ أثناء نزولنا، لاحظنا أن زجاجة جهاز إنذار الحريق المعلّقة على الحائط كانت متصدّعة، لذلك تملّكنا الفضول من أجل معرفة كم من الجهد يتطلّب الضغط على تلك الزجاجة قبل أن يبدأ جهاز الإنذار بالعمل. وبنقرةٍ صغيرة انطلق المنبّه فانطلقنا بالحال هاربين من المدرسة. حرصنا على الابتعاد، متسائلين عمّا إذا كانت هناك كاميرا قد التقطت لنا صورة! بعد حوالي عشر دقائق عدنا إلى المدرسة، لنرى الباحة وقد امتلأت بالطلّاب والمعلمين، ومعاون المدير الصارم قد احمرّ وجهه غضباً وهو يهرول نحو مكتبه. ولا شكّ في أنّ بعضاً من زملائنا في الصف عرفوا جيّداً أنّنا وراء هذه الفعلة، ولكنْ لحسن الحظ لم يعرف بذلك لا المعلّمون ولا إدارة المدرسة.

شعوري بالملل في كثير من الأحيان في المدرسة جعلني ربّما ألجأ إلى خلق المشاكل أو التسبّب بها. في ما يخصّ استيعابي للدراسة، كانت الأمور تسير على ما يرام. كنت سريعاً في إنهاء واجباتي، وكان عليّ انتظار أن ينتهي الآخرون على الدوام من تسليم الواجب. لكنّ هذا الاضطراب الذي تسبّبتُ به، أنا وبلال وثلاثة طلّاب آخرين من الفصل الموازي في المدرسة، دفَع بالمعلّمين لتصنيفنا كطلّاب غير أكفّاء، على الرغم من أن درجاتي كانت من بين الأفضل في الصفّ. كان الاستثناء الوحيد هو مرشدة صفّي، المُدّرسة إنجر: في كلّ مرة يتمّ فيها إرسالنا أنا وبلال إلى مكتب الإدارة لتوبيخنا، كانت تتوتّر نيابةً عنّا وتقلق على مصيرنا، وتفعل كلّ ما في وسعها لمساعدتنا من أجل الخروج من المأزق، لأنها كانت تؤمن بنا. كانت تعرف بالضبط كيف تثير التحدّي في داخلي حول الدراسة. مثلاً، حين أخذتْني جانباً يوماً لتخبرني بأن طالباً آخر في الصفّ بات على وشك أن يتفوّق عليّ في اللغة الألمانية. أمدّني ذلك بإرادة هائلة لإثبات أنّني الأفضل، والعمل من أجل أن أحافظ على الدرجات الـ11 التي حقّقتها في الصفّ.

في وقت مبكّر، صنّفتني إدارة المدرسة كولد مثير للمتاعب

مع اقترابنا من الصفّ التاسع، تمّ بذل جهود استثنائية من أجل إطلاعنا، نحن الأولاد في فولسموسه، بشأن الدراسات المختلفة ضمن مجال التعليم المِهَني. في الواقع، لم تكن لديّ معرفة بإمكانيات دخول الثانوية قبل نهاية الصفّ التاسع، حين أخبرتْني إنجر تحديداً بأن عليّ أن أكمل تعليمي الثانوي.

لم أكن أعرف حتّى ما هي المدرسة الثانوية، ولكنّني اخترتها رغم ذلك لأنّني كنت أثق بإنجر التي ساعدتني على وضع أهدافٍ وددتُ تحقيقها. خلال المدرسة الثانوية أصبحت الملاكمة أكثر جدّية، إذ أصبحتُ بطلاً دنماركياً وانضممت بالفعل إلى المنتخب الوطني وأنا في السابعة عشرة من العمر. لقد جعلني ذلك أكثر جدّية حيال كيفية تنظيمي وتخطيطي لوقتي في ما يخصّ الواجبات المدرسية والمدرسة، وكذلك التدريب والنظام الغذائي. 

في عام 2012 كنت قد تركتُ مسيرتي في الملاكمة، حيث ذهبتُ في فترة التدريب الدراسي للإقامة في فلسطين. عملتُ هناك كمنسّق مشروع في "البيت الدنماركي في فلسطين" ثم أكملت إجازتي الجامعية في العلاقات التجارية الدولية واللغة العربية في "جامعة سيدانسك" الدنماركية (Syddansk)، تاركاً خلفي 47 مباراة، وبطولتين دنماركيّتين وميدالية فضية في "بطولة دول الشمال"، مضافاً إليها ما لا يحصى من الصداقات والذكريات لمدى الحياة، تضمّنها الالتحاق بالعديد من معسكرات التدريب والمباريات في الخارج.


* ترجمة عن الدنماركية: دُنى غالي

المساهمون