سوق القراءة

10 فبراير 2023
تيسير البطنيجي/ فلسطين
+ الخط -

من يُحدّد سوق القراءة أو مزاج القرّاء؟ الإنتاج الروائي أم رغبة الاستهلاك؟ بحسب ماركس، فإنّ الإنتاج وليس الاستهلاك هو المبدأ المحدّد لكل صيرورة الحياة الاجتماعية. وفي التعميم الذي يكتبه الناقد الروسي فريدلندر في كتاب "الأدب والعلوم الإنسانية" (وزارة الثقافة السورية، 1986)، يُمرّر هذه المقولة إلى عالم الأدب والفنّ، قائلاً: "ليست حاجات القارئ وأذواقه الجمالية، التي يُقال عنها أحياناً إنّها خارج التاريخ، هي التي تحدّد بنية الأدب والفنّ ومضمونهما وأشكالهما، بل العكس... فإنّ الأدب والفنّ هما من يكوّن أذواق القارئ، وتصوّراته الجمالية"، وهو الأمر الذي يخلق الفارق بين كاتب وكاتب، بين من يكتب لجمهور محدَّد يعرف مسبقاً ذوقه ومطالبه المعرفية والجمالية، وبين كاتب آخر يكتب دون أن ينشغل بسوق القراءة.

كما أنّه يخلق الفارق بين الأدب المكتوب لفئة محدّدة، كالأدب البروليتاري مثلاً الذي نشأ في بداية ثورة أكتوبر الروسية، إذ دعا الكتّاب الذين أوجدوا هذا المصطلح لكتابة أدب يخاطب البروليتاريا، فأخضعوا أنفسهم مسبقاً لوعي الطبقة، أو لوعي أفراد من الطبقة، ووضعوا قواعد ومخطّطات لأعمال تناسب ذلك الوعي. يرضخ الكاتب هنا لقارئ غائب، مختلَق، والأغلب أنّه غير موجود، بينما يوجد النص الذي وُضع في القالب. 

لا يزال الكتّاب يعملون وفق هذه القسمة، ثمّة من يكتب للتلاؤم مع أذواق الجمهور، وهو يصنع لنفسه مكانة في السوق، وفي قوائم "البست سيلر"، وفي هذه الحالة، فإنّه يضع نفسه، أو كتابته، رهن المستهلك، وهذه واحدة من "القواعد" الجديدة التي حاول أن ينشرها، ويعمّمها، كتّاب وفنّانون وممثّلون في عالمنا العربي، مع تمدُّد عصر الاستهلاك، وانتشار العبارة التي تقول إنّ الانتاج يُعبّر عن مطالب الجمهور. الطريف أنّ الأمر لم يكن موازياً لهذا في المجال الاقتصادي الاجتماعي، فلا إنتاج يُعتدّ به صناعياً وزراعياً، أي ذلك الإنتاج، أو العمل الاجتماعي، المحدِّد للصيرورة الاجتماعية. ولهذا يمكن القول إنّ الأدب والفنّ استسلما لمستهلك مزعوم، وتحوّلا إلى استجابة.

الكتابة المتردّية تستجيب لرغبة السلطة، لا لمزاج الناس

كان القارئ مجهولاً تقريباً، ومن الصعب على الكاتب أن يعرف ما هي مطالبه، وما هو مزاجه، وما هي الأفكار التي تشغله، وكيف تمكن مخاطبته، إذ كانت الصلات تقتصر على جمهور المسارح التي تقدّم كوميديا صاخبة غرائزية، وهو الجمهور الذي كان الإنتاج الهابط يتوجّه إليه، ومن ثمّ يمكن أن يُعتبر "مقياساً" لجماهيرية أو شعبية الإنتاج المعروض.

لهذا فإنّ الهبوط في طبيعة المادّة لم يكن تعبيراً عن هبوط وعي القارئ، أو تردّي ذائقته الفنّية، وحسب، بل تعبيراً عن هبوط وتردّي وعي الكاتب، أو المنتِج، الذي يعتقد أنّ عمله يمكن أن يسوَّق في وضع التردّي الثقافي العام، ولن يكون بالطبع، حتى لو زعم أنّه يخاطب المحرومين.

 كانت الأنظمة الحاكمة العربية، ولا تزال، تشجّع، بدورها، هذا النمط من الإنتاج ذي الطبيعة الاستهلاكية، الذي يعبّر أيضاً عن طبيعة وشكل نشاطها الاقتصادي. ولهذا يمكن القول إنّ الكتابة المتردّية، كتابة مأجورة، إذ تَستخدم ذريعة ما يطلبه الجمهور كي تُعمِّم إنتاجها الذي يستجيب لرغبة السلطة، لا مزاج الناس.


* روائي من سورية

موقف
التحديثات الحية
المساهمون