لا يعرف تاريخ الرواية العربية رواية بأهمية "شرق المتوسّط" من حيث موضوع السجن السياسي، وعلاقة السجين بالفكر والحرية. لا يتعلّق الأمر بروائي يَعرف أسرار الكتابة الروائية فقط مثل عبد الرحمن منيف، بل بالموضوع الذي قدّم فيه النموذج شبه الكامل عن السجن السياسي. صحيح أنّ هذا الوضع لم يغب عن الرواية العربية، ولكن بدا كأنّ هذه الرواية قد استهلكت الموضوع، امتّصت زبدته، وألقت به في الشارع قائلةً: لا مكان لمن يُريد أن يُعيد الكتابة عن هذه الفقرة مِن حياة السجناء.
ويمكن للعنوان نفسه أن يكون قد أشار إلى هذه القوّة في التعميم، حين وضع المواجهة في نطاق جغرافي غير محدَّد. والأمر عائد إلى التشابه، إذ تتشابه السجون كما يتشابه الجلّادون. وبسبب التشابه بين أوضاع السجون والسجّانين، فإن رواية قوية مثل "شرق المتوسّط" تستهلك هذا الموضوع، دون أن تكون موضوعة السجن السياسي قد استُهلكت، ولكنها تحتاج إلى شكل آخر، أو زاوية أُخرى ترى إلى المشهد بطريقة مختلفة. والطريقة المختلفة هي التي جعلت من الممكن كتابة أسطورة فاوست أكثر من مرّة بأقلام كتّاب من عدّة ثقافات، ومثل ذلك ما حدث مع أسطورة أوديب التي أُعيدت كتابة موضوعها أكثر من مرّة، وفي كل مرّة كان يظهر أوديب جديد مختلف عن أوديب الآخر.
وحده الفنّان أو الكاتب من يقرّر الفاكهة التي سيُخرجها من السلّة
وفي رواية كريستا فولف "ما يبقى"، تعيش الراوية رعباً غير محدود من المراقبة البوليسية. وحين تستعيد التفاصيل فإنّها تسجّل حياتها اليومية التي تشبه حياتنا. إنّها نحن. ينتاب القارئ هذا الشعور الذي تعاني منه الراوية كأنما يعيش، وهو يعيش، تفاصيل حياتها اليومية أثناء سردها لخوفها من دورية الأمن التي تراقب بيتها ليلاً ونهاراً. لن يكون لديك ما تقوله أكثر ممّا قالته كريستا فولف عن ألمانيا في زمن "الاشتراكية"، بل عن أيّ بلد من تلك البلدان التي تبني جدران المراقبة الأمنية أو البوليسية.
هل هي مشكلة الموضوع؟ أم مشكلة المعالجة؟ الجواب الثاني أقرب إلى الحقيقة، فموضوع الديكتاتور الذي عالجته الرواية في أميركا اللاتينية مثلاً، وهي الرواية التي انشغلت بهذه الظاهرة بشكل لافت، وقدّمت سلسلة من الأعمال الروائية التي اختارت كلٌّ واحدة منها أن تذهب إلى شخصية الديكتاتور من زاوية جديدة، يمكن أن يكون منطلقاً لمناقشة سحر المعالجة لا الموضوع. وهكذا شهدنا في الترجمات العربية لأستورياس رواية "السيد الرئيس"، ولماركيز "خريف البطريريك"، ولفارغاس يوسا "حفلة التيس"، وتُرجمت حديثاً إلى العربية رواية آلخو كاربنتييه "أسلوب المنهج"، وهو ما يعيدنا كل مرّة إلى طبيعة الفن التي لا تستثمر في الموضوعات فقط كما يمكن أن يُظن، بل في البنية الفنّية، أو في زاوية المعالجة، أو في حوار الشكل والمضمون.
يمكن لأي شخص أن يضع أمامنا سلّة موضوعات قائلاً إنّ على الفن أن يعالجها. يحدث هذا دائماً، يقترح النقّاد والمفكّرون والسياسيون والقرّاء الموضوعات على الفن، ولكن الفنّان أو الكاتب هو من يقرّر ما الفاكهة الطيّبة التي سيُخرجها من سلّة الفن البديعة.
* روائي من سورية