مع امتداد وتوسّع دائرة الصراع، والتنافس في هذه الأيام على الإمساك بجهات الكرة الأرضية الأربع، من جغرافية الوطن العربي إلى جغرافية المحيط الهندي، نتذكر كتاباً تناول طرفاً من أحداث وأماكن تكاد تكون مجهولة في الثقافة العربية المعاصرة؛ كتاب المؤرخ البريطاني رتشارد هول (1925-1997)، المعنون "إمبراطوريات الرياح الموسمية"، والصادر في عام 1998.
يسرد هذا الكتاب تاريخ المحيط الهندي والغزاة الذين اقتحموه، وخاصة مع أواخر القرن الخامس عشر، ذلك القرن الذي شهد أخطر انقلاب في الميزان الدولي بين الشرق والغرب لصالح الأخير، عسكرياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً، وما زالت آثاره تفعل فعلها حتى اليوم.
في هذا القرن، وإثر اقتحام السفن الحربية البرتغالية للمحيط الهندي، وقطعها لشرايين الحياة التجارية والثقافية والسياسية والإنسانية التي ربطت سواحل هذا المحيط بعضها ببعض، فتح هذا الاقتحام بوابة انهيارٍ متسلسل شمل على وجه الخصوص الوطن العربي وبحاره، بحر العرب والبحر الأحمر والبحر الأبيض المتوسط، وشمل علاقاته بالهند والصين وأفريقيا في المقام الأول. وفتح بالطبع بوابة طامعين آخرين (هولنديين وإنكليز وفرنسيين.. إلخ) شهدت مياه المحيط الهندي صراعاتهم الدامية بين بعضهم بعضاً، وبينهم وبين سكان شواطئ هذا المحيط وخلجانه، بدءاً من مضيق ملقا شرقاً وصولاً إلى مياه الخليج العربي غرباً.
المدن العربية التجارية على ساحل أفريقيا الشرقي هي أول ما تلقى ضربات الأسطول البرتغالي الوحشية، أسطول فاسكو دي غاما، فدُمرت مدنٌ ونُهبت وقتل الآمنون، وأحرقت وأغرقت حتى السفن المدنية، التجارية منها وتلك التي تحمل الحجّاج إلى بيت الله الحرام. وامتد هذا التخريبُ والنهبُ والقتل من سواحل البحر الأحمر والخليج العربي إلى شواطئ الهند وجزر الملايو. ولعل وصول الأساطيل الغربية إلى سواحل الصين وفتحها بالمدافع لتجارة الحشيش في النصف الثاني من القرن التاسع عشر كان يمثل نموذج دالاً على ثقافة ومسارِ حملاتٍ استعمارية غربية بشعة لم يكتب عنها الكثير حتى اليوم.
يرسم تاريخ المحيط الهندي حين اقتحمه الغزاة الأوروبيون
إذا عدنا بحكاية هذه الغزوات إلى أوّلها وتفاصيل الاستعداد لها على صعيد الجهد الثقافي والعسكري والاقتصادي، سيطول الشرح وتتعدّد المجلدات، ولكن رواية بعض القصص ستكون ذات دلالة ثقافية قد تغني عن شرح مطوّل إلى حد ما حين تمسك بجوهر ما شهدته أمواج المحيط من أحداث.
يحفظ التاريخُ خبر معاهدة تدعى "معاهدة تورديسيلا" عقدت بين إسبانيا والبرتغال في حزيران/ يونيو من عام 1494، وحظيت بمباركة مرسوم بابوي قسّم الكرة الأرضية، نعم الكرة الأرضية، بين هاتين القوتين الصاعدتين لاحتلال البحار والقارات. كانت إسبانيا تحتفي بعودة كولومبس مما ظن آنذاك أنها الهند مبشّراً بالذهب والأرض والثروات التي لا تبيد بعد عام من الاستيلاء على غرناطة العربية.
خلال ذلك كان البرتغاليون يسعون إلى الوصول إلى الحلم نفسه: الهند بكل ما امتلأ به الخيالُ الغربي عن ثرواتها. فتناطحت القوتان، وهددت البرتغال بإرسال أسطولٍ للاستيلاء على كل الأراضي الواقعة غرب جزر الآزور، أي ما وضعت عليه إسبانيا يدها، بحجة أن هذه الأخيرة أهملت حقوق البرتغال. وكان التهديدُ خدعة، لأن البرتغال كانت قد بدأت تضع لمساتها على الطريق إلى الهند الحقيقية لا هند كولومبس، ودارت حول أفريقيا، إلا أنها خشيت من طعنة في الظهر. ونجحت الخدعة وصدر قرار التحكيم البابوي بأن وضع خط تقسيم جعل كل أرض بعد خط الطول الذي يمر غربي جزر كيب فيردي بـ370 درجة من نصيب إسبانيا (أي كل ما وصل إليه كولومبس)، وكل أرض شرقي هذا الخط من نصيب البرتغال، ومعنى هذا أن قرار التحكيم البابوي وهب للبرتغال أفريقيا وحوض المحيط الهندي والشرق كله.
هذه قصة وتبعاتها شهدتها أمواج المحيط الهندي، ولكن هناك قصة أخرى شهدتها أمواج هذا المحيط أيضاً، إلا أنها تقف في مواجهتها، وتعاكسها أخلاقياً وثقافياً وسياسياً واقتصادياً وعسكرياً، هي قصة أمير البحر الصيني المسلم شنج هي، الملقب بخصي الجواهر الثلاث، ذلك الذي سبق بأسطول تجاري ضخم يتكوّن من ما بين 40 إلى 100 سفينة من السفن الشبيهة بالقلاع العائمة، أساطيل البرتغال إلى المحيط الهندي.
مثّلت تلك المرحلة أخطر انقلاب في علاقة الشرق والغرب
كان ذلك في العام 1405، أي قبل ستمائة عام تقريباً من عامنا هذا. حمل هذا الأسطول المكلف بالاتصال بشواطئ الجزيرة العربية وشرقي أفريقيا، حيث مصدر العاج والعنبر وقرون وحيد القرن والذهب، ما يقارب 30 ألف رجل، بعضهم عبارة عن جيش لحماية الأسطول، وبعضهم من شتى صنوف التخصّصات، أطباء ومحاسبون ومترجمون وباحثون ورهبان وفلكيون وتجار، والغاية هي الوصول إلى الأسواق. ولم يسجّل أن هذا الأسطول خرج عن مهمته إلا في سيلان حين طلب من ملكها سناً من أسنان بوذا قيل إنه يمتلكه، ولما رفض هاجمه الصينيون وأسروه. ولا يعرف إن كانوا حصلوا على سن بوذا أم لا، إلا أنهم تركوا على شاطئ الجزيرة نصباً حجرياً بثلاث لغات هي الصينية والتاميلية والهندية، يذكّر بمجيئهم ويمتدح الديانات الثلاث: الهندوسية والبوذية والإسلامية.
عرف الصينيون هذا الأسطول باسم "أسطول النجوم" بناءً على أسطورة قديمة تقول إن السفن التي تبحر في أعماق المحيط وتمضي بعيداً هي سفن سينتهي بها المطاف إلى مغادرة الأرض والصعود إلى السماء، إلى درب التبانة، ومنه إلى كوكبة القيثارة، وهناك ستصادف الشابة التي تشاهد عاكفة على مغزلها. ولكن السفن الصينية لم تواصل رحيلها إلى كوكبة القيثارة كما توقع أصحاب الأسطورة، بل زارت الخليج العربي ودارت حول الجزيرة العربية ووصلت إلى عدن حيث هبط وفد على الشاطئ وزار بلاط سلطانها، ولما لم يفهم الصيني أن أصول الاحترام هناك أصبحت تقبيل الأرض أمام السلطان، اعتبر عربُ تلك السلطنة رفضه إهانة، وأي إهانة، بينما استخف الوفد الصيني عقل شعب عدن في تلك الأيام.
بعد زيارة موانئ البحر الأحمر واصل الأسطول، أو جزء منه، رحلته، فوصل إلى ما كان يطلق عليه "ساحل الزنج"، أي ساحل شرقي أفريقيا، وبخاصة إلى ماليندي، ليتمكن التجار الصينيون من المتاجرة مباشرة مع أسواق الساحل التي كانت طيلة قرون تصل منتجاتها عبر الوسطاء. وتحتفظ المحفوظات الصينية بخريطتين دقيقتين لأفريقية من عمل فلكي الأسطول.
وتبعت هذه الرحلة الأولى ست رحلات، وتواصل الوجود الصيني في مياه المحيط الهندي حتى عام 1433، وهو عام وفاة أمير البحر شنج هي في كاليكوت، ونقلته السفن عائدة به إلى الصين.
بعد ذلك أسدلت حاشية الإمبراطور الصيني المتغلبة، حاشية كونفوشيوسية على الأغلب، الستار على شهرة أمير البحر هذا وأسطوله، وأعادت الصين إلى عزلتها وراء مضيق ملقا، ودُمرت سجلات أسطول النجوم. وحتى بعد مرور 160 عاما، في نهاية القرن السادس عشر، حين حاول لو ماو دينغ إحياء ذكراه بكتاب تذكاري، لم يكن لكتابه إلا تأثير ضئيل، لأن موظفي البلاط قاموا بمهمتهم بنجاح لا نظير له كما يبدو، وألقي بأعظم أمير بحر صيني في غياهب النسيان، وغاب معه حتى المترجم المسلم الذي رافقه في رحلاته، المدعو ما هوان، الذي أجاد العربية نطقاً وكتابة، لغة المحيط الهندي في تلك الأزمان، وكتب كتاباً عن مشاهداته في عشرين بلداً زارها. ومع أنه طبع كتابه في عام 1451، وحاضر عن رحلاته بعدما بلغ الثمانين من عمره، إلا أن النسيان كان من نصيبه أيضاً.
* شاعر وروائي وناقد من فلسطين