بفضل موهبته، عاش الفنان الإيطالي ساندرو بوتيتشيلي (1445 - 1510) ردهات حياته مبجّلاً. بمعنى ما، وبعبارات حديثة، يمكن القول إنه عاش نجماً في سماء "عصر النهضة"، لكنه لم يكن يدري بأن حظّه في تاريخ الفن سيكون أقل بكثير من حظه في حياته، ذلك أن لمعان اسمه قد تقلّص بالتدريج مقابل صعود نجم معاصريه الأصغر منه سناً ليوناردو دافنشي ومايكل أنجلو بالتدريج، وصار "عصر النهضة" يختزل فيهما، بينما ذهب بوتيتشيلي وآخرون مثل فيروكيو ودوناتيلو إلى الظل رغم أهمية هؤلاء في تاريخ الفن.
منذ عقود، بات الباحثون يفضّلون تقسيم عصر النهضة إلى مراحل، ومنها مرحلة "عصر النهضة المبكّر"، وهو تعبير يخدم بوتيتشيلي كثيراً ففي ذلك الزمن الذي لم تظهر فيه عبقرية دافنشي ومايكل أنجلو بعد، حظي الفنان الإيطالي بكثير من الاحتفاء والاعتراف، وكانت المشاريع الكبرى للأسر الحاكمة تعهد إليه، إضافة إلى تلبية الطموحات المعمارية والتزويقية للبابوات في روما، وقد لا يعرف الكثيرون أن جزءًا كبيراً من الأعمال التي تظهر في الفاتيكان كان من تصميم بوتيتشيلي في حين تُحسب في مجملها إلى مايكل أنجلو الذي يعدّ مستكملاً لمشاريع وتخطيطات كان قد وضعها بوتيتشيلي.
منذ العاشر من الشهر الجاري، يقام معرض في "متحف جاكمار أندريه" في باريس يحتفي بتجربة الفنان الإيطالي وكأنما يأتي هذا المعرض لإعادة الاعتبار له، حيث تصاحبه مادة توثيقية تبرز قيمة فن صاحب لوحة "الربيع" من خلال إضاءة سياقات عصر النهضة المبكّر ومن ثمّ نفهم ما الإضافات التي قدّمها الفنان الإيطالي للرسم، تقنياً وجمالياً.
بفضل دقّته، تُدرس تفصيلات من لوحاته كأعمال فنية مستقلة بذاتها
يُحسب لبوتيتشيلي عنايته الشديدة بتفاصيل الوجه وأيضاً بعناصر المشهد الخلفي للوحات، ومن الجدير الإشارة إلى أن بعض لوحاته قد أعيدت دراستها في سنوات قريبة بالتكنولوجيات الحديثة وتبيّن أن بعض الخلفيات التي كانت تبدو مجرّد عناصر جمالية تكميلية حملت تفاصيل دقيقة يصعب رسمها بأدوات القرن الخامس عشر.
أيضاً، يرسم المعرض الذي سيتواصل إلى الأيام الأولى من العام المقبل سيرة بوتيتشيلي بين فلورنسا وروما بالخصوص، وهما عاصمتا الفن في زمنه ولقرون لاحقة، وبالتالي فإن سيرته تبدو ملخّصاً لتاريخ الفن في الفترة التي عاشها، وقد وضعت كل لوحة من لوحات المعرض ضمن سياقاتها الزمنية لتبيّن تطوّر الفنان الإيطالي إبداعياً.
يضمّ المعرض أربعين لوحة جرى تجميعها من متاحف فرنسية وإيطالية، إضافة إلى بعض اللوحات التي استعيرت من مجموعات خاصة، ولعل أهم ما يودّ أن يؤكّد عليه المعرض هو أنه لا ينبغي اختزال بوتيتشيلي في لوحتين شهيرتين: "مولد فينوس" و"الربيع"، تماماً كما أنه لا ينبغي اختزال مجمل عصر النهضة في فنانين لا غير، وأكثر من ذلك يؤكّد المعرض أنه داخل الأربعين لوحة يمكن أن نستخرج عدداً أكبر من الأعمال الفنية بفضل عناية بوتيتشيلي بالتفاصيل.