زمن الأسطورة

12 يناير 2024
صبي فلسطيني أمام مبان مدمّرة في رفح جنوبي غزّة، 11 كانون الثاني/ يناير 20123 (Getty)
+ الخط -

أخطر ما في المعركة الفكرية التي تُخاض ضدّ "إسرائيل" وأنصارها، هي أنّنا بحاجة لتفكيك الأسطورة التي تأسّست الدولة العبرية على أساسها، وأنَّ هذه الأسطورة لا تتغلغل في وجدان وتفكير وعقل وتاريخ الشعوب الغربية وحدها، بل إن من بين العرب من بات يدافع عنها، ويزعم صحّتها، ويمنحُ الإسرائيليّين الحق في الأرض الفلسطينية. إنّها أسطورة فقط.

ومهما قلتَ، وبيّنت أنّنا إزاء أسطورة، لا أحدَ يلتفتُ نحوك، وهم مستعدّون للاستماع إلى أسطورة جلجامش، وأسطورة يوليسيس، وأسطورة طروادة، واعتبارها من الخيال، وعدم الزجّ بها في التاريخ، أو في حرب الحقائق، باستثناء أسطورة أنَّ الشعب اليهودي كان هنا في فلسطين، وأنَّ من حقّه العودة إليها.

وبعكس جميع الأساطير المسالمة، التي لا تعترض على وصفها بالخيال والوهم، فإنَّ أساطير التأسيس للشعب اليهودي مزوّدة بالمخالب والأنياب. حتّى إنَّ فرنسا مثلاً، حاكمت مفكّراً مثل روجيه غارودي بسبب كتابه "الأساطير المؤسِّسة للسياسة الإسرائيلية". وهو يقول في كتابه؛ بعد أن يجري بحوثاً، مقارناً بينها وبين العديد من المراجع التي تشير إلى تشابهات كثيرة بين تلك الأساطير لدى عدة شعوب، ومنها شعوب عاشت قبل كتابة أسفار "العهد القديم" بمئات السنين: "وهذه جميعها قصصٌ رمزيّة ذات مغزى روحي لا يستند البتّة إلى دلائل تاريخية موثّقة".

واللّافت في أمر هذا الكتاب أنَّ الثقافة العربية نفسها قد أهملت ذكره، والعودة إليه للتزوّد بالأفكار الهامّة التي قدّمها في مجال نقض الأسطورة وإعادتها إلى رمزيّتها، أو في مجال المقارنة بالوقائع التاريخية التي تثبت زيف الأسطورة، أو عدم صحّتها بالمقارنة مع الحقائق، وحيث يقدّم بالوقائع مقارنات مُرعبة بين سلوك الصهاينة المعاصر المستوحى في نطاق الإبادة العرقية من سلوك أنبياء العهد القديم وأسفارهم.

أكثر فلاسفة الغرب العقلانيّين يجثون أمام أساطير "العهد القديم"

الملاحظ من قراءة الكتب المترجمة إلى العربية عن الأسطورة، وهي إعادة قراءة لكثير منها على ضوء ما يسود العالم الغربي من انحياز لاإنساني ولاأخلاقي إلى سياسة "إسرائيل" الوحشية في غزّة، أنَّ معظم المفكّرين في الغرب يميلون إلى تفسير الأسطورة رمزيّاً، وهذا هو الموقف العلمي، باستثناء أساطير "العهد القديم" التي تُتخذ ذريعة لقيام دولة الكيان الصهيوني، وتدافع عن وجودها، وتخرجها من شبكة هذا الرأي.

أكثر الفلاسفة العقلانيّين في الغرب يجثون أمام سطوة أساطير "العهد القديم"، كي يدافعوا عن وجود الدولة العبرية، وينفوا وجود فلسطين. وفي كتابه "الأسطورة" الصادر عن "مؤسسة هنداوي" (2017)، يصف روبرت سيغال كتاب عالم اللاهوت رودولف بولتمان "العهد الجديد والميثولوجيا" بأنّه متناقضٌ: "فعلى الرغم من أنّه يصف الأساطير بأنّها تعبير رمزيٌّ عن الحالة الإنسانية، فإنّه يأخذ أساطير سِفر الرؤيا في 'العهد القديم' مأخذاً حرفياً". وأهمّ ما في ذلك هو أنَّ الثقافة العربية تجاهلت، أو غضّت النظر عن مثل هذا الانحياز، ولم تدرك مخاطره من قبل.

تنتهي الرمزية في الأسطورة عند حافة الأهداف السياسية، وتتحوّل الأحداث فيها إلى النطاق الحرفي والتاريخي، في أكبر عملية تزوير فكرية وفلسفية وأيديولوجية ينفّذها الساسة الغربيّون، في القرن العشرين بوجه خاص، ويساندهم جيش من فلاسفة ومفكّرين وعلماء لاهوت خرجوا من تاريخ آخر، لا من تاريخ هذه المنطقة.


* روائي من سورية

موقف
التحديثات الحية
المساهمون