رقصة الموت

23 يوليو 2021
عبد القادري/ لبنان
+ الخط -

لا تدخل هذه الغرفة إذا استطعت... هناك ستواجه أسوأ مخاوفك وراء قناع من الفرح؛ لا تفتح الباب إذا أمكن، فخلفه تنتظرك هياكل عظمية لها أشكال إنسان؛ ستنسى تاريخك وبطاقة تعريفك والعالم الأكبر الذي انطوى داخلك، وستسقط تدريجياً في فجوة الإدراك. لن تكتشف ذلك إلّا بعد فترة لا بأس بها من الزمن؛ حين تفقد الكثير ممّا لديك من اتّزان وقيَم؛ ستفقد ربّما أحبّ الناس إلى قلبك، وستفقد بلا شكٍّ شعاع النور الذي رافقك وطُبع على جبهتك ساعة الولادة وكلّل حضورك لتهِبَ العالم ما أمكن من الحبّ والصِدق والرحمة.

منذ مدّة، كشفت "منظّمة الصحّة العالمية"، في دراسة نُشرت في اليوم العالمي لمكافحة المخدّرات، عن التزايد المخيف والصادم لاستخدام المخدّرات بين فئة الشباب منذ بدء الجائحة، وقدّرت الأرقام بنحو 275 مليون شخص في العالم، لعام 2020. الدراسة والأرقام تزامنت مع مجموعة أعمال فنية بدأتُ العمل عليها قبل شهرين حول الموضوع نفسه.

لقد فرضت العزلة التي عاشها العالم حالاتٍ مختلفة من الهروب من الموت المحدِق بنا؛ من رعب أرقام الوفيات والشعور بأن السماء تغلق أبوابها الكثيرة في وجه أحلامنا. حالة الاختناق التي كنا نعيشها استدعت عند الكثيرين الرغبة بالتحليق قبل أن يقطع الوقت أجنحتنا. هكذا، قرّرنا أن نطير دون أن نفكّر بآلام السقوط بعدها. ويبدو أن ذلك استدعى بعض الطقوس التي فرضت نفسها لخلق عالم موازٍ؛ حقيقة متخيّلة من الفرح. الرقص تحت وقع المخدّر كان واحداً منها. إنه السعي السريع لسعادة مؤقتة؛ سعادة سنكتشف لاحقاً كم هي قاسية وموحشة. إنها رقصة الموت التي تُذكّر اليوم بذاك المصطلح الذي عرفتْه أوروبا في أواخر القرون الوسطى، وتحديداً مع المجاعة وحرب المئة عام في فرنسا، والأهم والأكثر عنفاً اجتياح الطاعون الأسود - أو ما عُرف بالموت الأسود ــ أنحاء أوروبا ما تسبّب بموت ما لا يقلّ عن ثلث سكّان القارة. جاء المصطلح ليذكّر الناس بهشاشة الحياة وكم هي زائفةٌ أمجادُهم على هذه الأرض.

يبدو أننا اليوم نعيش حالة مماثلة، وأن وسط كل هذا الموت الذي حاصرنا لم يكن في حيلتنا إلّا الرقص. لا شيء حقيقيٌّ؛ فلنرقصْ؛ لا بدايات ولا نهايات. الأرقام في حياتنا لها أسماء الوفيّات ونحن على قيد الانتظار نتربّص. نُلملم عزلتنا وأحزاننا ونرصّها في علب كبريت صغيرة ونرميها جانباً عند المنضدة الصدئة. الرقص في بيروت لا يشبه الرقص في مدن العالم الأخرى. الرقص هنا على أنقاض مدينة تحتضر...

نحن أكثر جمالاً وحرّيّةً عندما نكون على حقيقتنا

في خضمّ ثورتنا الأخيرة دُمجت موسيقى التكنو مع كلمة ثورة، وكانت القبضات ترتفع عالياً على وقع الأجساد التائهة. حينها، بدأ اليأس والتعب يتسلّل الى أجساد مَن في الشارع لإسقاط منظومة نحن ابتدعناها وباركنا وجودها لأكثر من ثلاثين عاماً. دخلنا في عملية تمسيخ الوعي وحرق الأوراق. انطفأت الثورة... لم تنطفئ. لا يهمّ؛ ما زلنا نرقص.

حظر تجوّل... عزلة... يُحاصرنا الموت، لا أماكن للرقص؛ الأبواب كلّها مُوصَدة؛ فلنرقص في غرف منازلنا؛ فلنرقص كأعنف من أيّة جائحة؛ فلنبتسم للموت المحدِق بنا؛ فلنبشّر بالقيامة المشتهاة.

بطاقات ائتماننا صارت سيوفاً تحفّ رقابنا، وما جُمع في العمر صار تراباً. لا يهمّ؛ فلنرقص...

المرفأ الوادع المطلّ على المتوسط ينفجر؛ تتحطّم المدينة، واجهاتُها الزجاجية إسفلتٌ جديد للأرض. المأساة أكبر من أن تتقبّلها عقولنا، الأرض ترتعش تحت أقدامنا، وحده الليل يبشّرنا بأنْ لا غدَ يجمعنا. لم نمت، لم نتشوّه، وحدها النفوس تشرّدت. سنرقص...

قبل أشهر ونحن في ذروة النشوة تساقطوا من حولي واحداً تلو الآخر؛ أحداقُ أعينهم الواسعة لم تحتمل كلّ هذا الفرح. هُم يُدركون جيّداً أن الرقص مراسمُ موت أيضاً. امتلأت الغرف بأجساد باردة سقطت في هوّة الوهم.

لا تهلع، لن يموت أحد. إنها مسألة ساعات، حين تسكن النشوة قبرها ستعود الحياة مجدداً. حسناً، لن يموت أحدٌ، لكنْ أرجوكم لا تطفئوا الأضواء؛ هذا الظلام يُرعبني؛ هذا الوهم يُسطّحني؛ هذا الرقص يُصيبني بالشلل.

منذ ذلك اليوم وأنا أحاول أن أدفن تلك الصور في أماكن مظلمة داخل عقلي؛ أن أعيد صياغة عالم أكثر اتّزاناً؛ أن أتناسى أنّ مَن أحببتهم كدت أن أفقدهم في لحظات سقوطهم، وكمّ الضرر النفسي الذي خلّفه داخلي ذاك الخوف. هم اليوم ما زالوا ربما يرقصون... تبتعد تدريجياً لتختفي ملامحهم مع الوقت. أفكّر في تلك الساعات اليوم وأفكّر كيف كان يفرغ المرء روحه من جمالها وعظمتها دون قصدٍ أحياناً. كم كانت عابرة وآنية لحظاتنا وكم كانت قاسية تبِعاتُها.

نحن أكثر جمالاً عندما نكون على حقيقتنا. نحن أكثر إيماناً وحرّيّة عندما نكون على حقيقتنا. لا نرقص إلّا على صدى الألم؛ ألم الخسارات؛ ألم البدايات والنهايات.

نقف اليوم وربما نودّع تدريجياً هذه الجائحة؛ هذا الشبح العملاق الذي حاصرنا لأشهر طويلة. نقف نتأمّل أيامنا؛ مكاسبنا وخسائرنا؛ يلزمنا عامٌ آخر على الأقل لنتشافى وندرك بشكل واعٍ وعميق كيف تعاملنا مع هذه الأزمة الكونية وما هي العبر التي استخلصناها. هناك حتماً صحوةٌ لا بدّ أن نختبرها، وهذا لن يحصل بمجرّد الاعتراف بهذا الواقع. الأمر يتطلّب جهداً كبيراً لنعود ونؤسّس علاقة سليمة وصحّيّة مع أرواحنا التعِبة، مع عالمنا المتداعي ومع الأشخاص الذين جمعتنا بهم حكاية حبّ وفرح. ربما سنكتشف لاحقاً أنها لم تكن إلّا مجرّد وهم آخر.

ربّما سندرك مع الوقت أن أهمّ ما نحتاجه كبشرٍ هو سلامُنا الداخلي الذي لن يتحقّق إلّا بالإدراك الحقيقي للنفس. المتّزنون عاطفياً ونفسياً لا يُمكن أن ينزلقوا في مستنقع مظلم كهذا. ما نحتاجه هو الإيمان بقدرتنا على إيجاد مساحة من السلام والمصالحة مع ترسّبات اللاوعي. نحتاج الى فهمٍ عميق وحقيقي لذواتنا ومعاهدة حقيقية على أن نتسلّح بالقوّة والإرادة والوعي. في الغالب ما ينقصنا هو الحبّ والاهتمام. لأجل هذا تتكرّر كلمة "أحبك" كثيرا في تلك اللحظات. 

التستوستيرون، الإستروجين، الأوكسيتوسين، الفازوبريسين، السيروتونين، الدوبامين، الأدرينالين... الخلطة السحرية لكيمياء العقل، المحرّك للإحساس... سيعجز هذا العقل لاحقاً عن إنتاجها بشكل طبيعي وستجد نفسك في وحدة وعزلة أكبر، في نفق مظلم، لن يضيء لك أحدٌ ممن رقصت معهم الطريق.

الحبّ الحقيقي والصداقة الحقيقيّة لا يمكن أن يُولدا أو يُزهرا من دون إدراكٍ لقيمة الزائرين لقلوبنا وأرواحنا في عالم خالٍ من السموم والأمراض وردّات الفعل المصحوبة بالاضطرابات والكثير من التداعيات النفسية والمرضية، التي لا نجرؤ أحياناً على مواجهتها فنقرّر الهرب؛ نقرّر حينها أن نرقص مع الموت.


* تشكيلي من لبنان

 

وقفات
التحديثات الحية
المساهمون