في أكثر من مُناسبة تشكيلية أُقيمت بمصر خلال هذا الصيف، كان من المُفترض حضورُ الفنان عزّ الدين نجيب، ليُواكب نقديّاً مُجريات المشهد، ويُدقّق في تفاصيله، كما هو المُعتاد، وهذا ما جرى مع بعض المعارض التي كتَب عنها مؤخّراً. ولكنّ تدهور وضعه الصحيّ قد حال دون بعضها الآخر، حيث أُعلِن في الثاني عشر من أيلول/ سبتمبر الجاري عن دُخوله قسم العناية المُركَّزة، إثر أزمة قلبيّة لم تُمهله طويلاً حتى رحل صباح هذا اليوم، عن ثلاثة وثمانين عاماً.
وُلد نجيب عام 1940 في إحدى القُرى التابعة لمحافظة الشرقية، وتدرَّج في تعليمه الحكومي خلال مرحلةٍ بدأ بها أبناءُ المُدن الطَّرَفية والطبقة الوسطى إثبات حضورهم في الوسط الأكاديمي، وإظهار اهتماماتهم بالمجالات الفنّية، الأمر الذي مكّنه، عام 1958، من الالتحاق بكلّية الفنون الجميلة في "جامعة القاهرة" مُتخصِّصاً بقسم التصوير (الرسم الزيتي)، ومن ثم تخرُّجه منها بعد أربع سنوات.
كان عقد الستينيات تأسيسياً في مسيرته، ففضلاً عن مُحاولاته الأُولى بنشر القصص القصيرة مع مجموعته "أيام العزّ" (1962)، بدأ تعرّفه على الجذور الفنية الأصيلة للحضارة الفرعونية، والتي ستحضر لاحقاً في اشتغالاته النقدية والتشكيلية، وخاصة في معرضه الأول في "قصر الثقافة الأنفوشي" بالإسكندرية، بالاشتراك مع زهران سلامة.
كما شهدت تلك المرحلة انخراطه بالعمل الوظيفي من خلال "قصر الثقافة" في كفر الشيخ الذي أسّسه وعُيّن مديراً له عام 1966، قبل أن يعود إلى القصة القصيرة ويوقّع مجموعته الثانية عام 1968، التي حملت عنوان "المثلّث الفيروزي".
أمّا في السبعينيات فسيُعرَف من خلال أبرز لوحاته مثل "المغنّي"، و"زفّة المولد" و"زرقاء اليمامة"، وتنغيمات الأمواج الرملية"، و"ترويض"، وغيرها من عشرات الأعمال التي حضر فيها التراث بشكل قويّ، كما تفاعل مع مَشاهد من الحياة المصرية اليومية في لوحات، منها: "بائع السلال"، و"الزحليقة"، والفتاة والقِدر".
لكنّ هذه الفترة ستشهد أيضاً تجربة اعتقاله في "ليمان طرة" عام 1975، أوائل الحُكم الساداتي للبلاد، حيث ستجمعه الزنزانة بالشاعر أحمد فؤاد نجم، والقاص إبراهيم منصور، والمخرج كامل القليوبي. وسيُنجِز خلال اعتقاله رسوماته التي تُمثّل حياة السجين المُراقَب، "اسكيتشات" بالأبيض والأسود (صدرت في كتاب عام 2014) تُكثّف بداية حقبة سياسية جديدة في مصر، ستنعكس بالضرورة على اشتغالات الفنّان، وتتعدّى فترة السجن إلى مراحل أُخرى.
في العقود التالية عاد إلى مُساءلة المكان المصري الذي بات في جزء منه "أطلالاً"، كما عنون عدداً من أعماله مثل: "أطلال البرّ الغربي بالأقصر"، و"أطلال وأشباح"، و"أطلال مُقاومة"، و"أطلال سيوة"، و"الأطلال الطائرة". الظِّلُّ في هذه اللوحات يطغى على اللون الأصلي، ويمتدّ من المكان إلى ساكنيه.
قدّم الراحل مؤلّفات نقدية عديدة كان لها أثرٌ في رَصْد المشهد الفنّي في مصر، منها: "فجر التصوير المصري الحديث" (1985)، و"التوجّه الاجتماعي للفنان المصري المعاصر" (1997)، و"موسوعة الفنون التشكيلية" بثلاثة أجزاء (2008)، و"الأنامل الذهبية" (2009)، و"ستائر الضوء" (1996)، و"فنّانون وشهداء" (2000) الذي بحث فيه مسألة الاستشهاد لا بما هو قتلٌ للجسد فقط، بل قتلٌ للروح، قبل ذلك، ومثّل عليه بالاغتيال المعنوي وتجاهُل القيمة التي قد يتعرّض لها الفنّان في بلده.
كذلك خَصّص مؤلّفات عن مسيرة فنّانين بارزين مثل جاذبية سري، ومحمد حامد عويس، وجميل شفيق، ومحمود بقشيش، وعبد الهادي الوشاحي، وهي كتبٌ صدرت خلال العقود الثلاثة الأخيرة، وقد ساهمت بالكشف عن أبعاد جمالية في أعمال هذه الأسماء.
إلى جانب عشرات المقالات النقدية والدراسات الفنّية، والمعارض الجماعية المحلّية والدولية، والمعارض الفردية التي تجاوزت الثلاثين (آخرها أُقيم العام الماضي في "غاليري ضي" بالقاهرة وحمل عنوان "60 عاماً بين المقاومة والبعث")، كانت لنجيب مساهماتٌ خارج قوس التشكيل، حيث صدر له في الرواية: "نداء الواحة" (2016)، و"المسافر خانة" (2021)، و"دبيب العقرب" (2022).