رحيل جلال الشرقاوي.. "مدرسة المشاغبين" وما بعدها

04 فبراير 2022
جلال الشرقاوي
+ الخط -

لم تكُن قد مرّت سوى أيام قليلة على حرب السادس من أكتوبر/ تشرين الأول 1973، حين كان جلال الشرقاوي (1934 - 2022) يقف في كواليس "مسرح كوته" بمدينة الإسكندرية، مُستعدّاً لإعطاء إشارة انطلاق العرض الأوّل لمسرحيةٍ يُخرجها استناداً إلى نصّ اقتبسه علي سالم (1936 - 2015) عن الفيلم البريطاني "إلى المعلّم مع الحب" (1967) للمخرج الأسترالي جيمس كلافيل.

ستواجَه المسرحية، التي أطلقت جيلاً جديداً من الممثّلين الشباب؛ مثل عادل إمام وسعيد صالح وأحمد زكي ويونس شلبي وهادي الجيار، بسيل عارم من الانتقادات؛ إذ رأى كثيرون أنّها تسخر من القيَم والمثُل العليا وتُبرّر للفوضى في المجتمع، بينما سيُدافع القائمون عليها بأنّها ليست سوى انعكاس لفترة ما بعد النكسة، والتي شهدت انهياراً للقيم التقليدية في المجتمع المصري. كلُّ ذلك بينما كانت "مدرسةُ المشاغبين" تواصِل تحقيق نجاح جماهيري سيجعلها تستمرُّ في العرض على الخشبة طيلة ستّ سنوات.

كانت تلك أُولى تجارُب الفنّان والمخرج المسرحي جلال الشرقاوي، الذي غادر عالمنا اليوم الأربعاء متأثّراً بإصابته بفيروس كوفيد 19، مع المسرح الخاص؛ إذ أنتجت العملَ "فرقةُ الفنّانين المتّحدين المسرحية". وهذا التعاوُن سيتجدّد بعد سنتَين مع مسرحية "قصّة الحي الغربي" (1975) التي اقتبسها بهجت قمر وسمير خفاجي عن الفيلم الأميركي الشهير الذي يحمل العنوان نفسه (إخراج روبرت وايز، 1961).

عكست "مدرسة المشاغبين" انهيار القيم التقليدية في المجتمع المصري بعد النكسة

تجري قصّة الفيلم في حيّ نيويوركي؛ حيث تدور مواجهات بين سكّانه الأصليّين ومهاجرين من بلدان أميركا اللاتينية. وفي المسرحية، المكان هو القاهرة، أمّا الصراعات الاجتماعية والثقافية والنفسية فتدور بين شباب ينتمي بعضُهم إلى حيّ الزمالك الراقي وحيّ بولاق الشعبي. لكن، وعلى خلاف، سابقتها، لم تُصوَّر المسرحية للتلفزيون، ولم يستمرّ بقاءها على الخشبة طويلاً، إذ مُنعت من العرض بعد فترة وجيزة.

ولن تكون "مدرسة المشاغبين" آخر مسرحيات الشرقاوي التي تُحقّق نجاحاً تجارياً كبيراً؛ إذ سيُقدّم للخشبة أعمالاً، ضمن المسرح السياسي الساخر، سيستمرّ عرضُها لفترات طويلة؛ أبرزُها "عطية الإرهابية" التي أخرجها عام 1992، وتروي قصّة بائعة جرائد يُجاور كشكَها مبنى أمن الدولة، تتعرّض لمضايقات من الشرطة تنتهي بصدور قرار بإزالة كشكها، فتسافر إلى قبرص، لتجد نفسها متّهمة بالانضمام إلى مجموعة إرهابية.

عُرض العمل في خضمّ موجة عنف شهدتها مصر مطلع التسعينيات، وأثار، هو الآخر، انتقادات ذهب معظمُها إلى الجانب الفنّي؛ حيثُ أعاب النقّاد ضعف بنية النصّ الذي كتبه إبراهيم مسعود (مواليد 1933)، مشيرين إلى أنَّ نقائص العرض جرى تجاوُزها بفضل المخرج الذي لجأ إلى تعويض نقائص النصّ بالديكور والإضاءة واختلاق المواقف الكوميدية، وأيضاً بفضل أداء الممثّلة سهير البابلي (1937 - 2021) التي كانت "عطية" آخرَ شخصية تُجسّدها في المسرح قبل أن تُعلن اعتزالها التمثيل.

ضمن الاتجاه نفسه، سيقدّم مسرحية "دستور يا أسيادنا" عام 1995 (من تأليف محمد الطوخي)، والتي تروي قصّة موظَّف بسيط يُدعى محمود عتريس (تمثيل أحمد بدير) يُقرّر الترشُّح لرئاسة الجمهورية حين يعلم أنّ الدستور يُتيح ذلك لكلّ المواطنين، وهي مسرحيةٌ سبقها وتلاها عددٌ كبيرٌ من مسرحياته التي حملت بصمته في النقد السياسي الساخر؛ مثل: "شهرذات"، و"عيون بهية"، و"ع الرصيف"، و"عفاريت مصر الجديدة"، و"ملك الشحّاتين"، و"انقلاب"، و"الدنيا آرغوزات".

تعرّض "مسرح الفنّ" للإغلاق والتشميع مرّات عدّة منذ تأسيسه عام 1976

قُدّم معظم تلك الأعمال على خشبة "مسرح الفن - جلال الشرقاوي"؛ وهو مبنىً في وسط البلد بالقاهرة افتتحه عام 1976، بمسرحية "شهرذات" التي تناولت حرب أكتوبر (من إخراجه وتأليف رشاد رشدي)، وظلّ، طيلة عقود، منبراً للمسرح السياسي الذي لم يكن يجد هوىً لدى السلطة السياسة في مصر، فعمدت إلى إغلاقه وتشميعه غير ما مرّة. غير أنّ الاصطدام مع السُّلطة سيصل ذروته مع صدور قرار بغلق المسرح في 2010، والتهديد بهدمه بحجّة أنّه يمثّل خطراً على "معهد الموسيقى العربية" الذي يُجاوره، وهو ما حمّل الشرقاوي مسؤوليته لوزير الثقافة حينها، فاروق حسني، قائلاً إنّه مَن يقف وراء القرار لتصفية حسابات قديمة بينهما.

سيتجدّد هذا الخلافُ بين الرجُلين لاحقاً؛ حين عبّر الشرقاوي، في تصريحات صحافية عام 2018، عن رفضه تنظيم "مهرجان القاهرة للمسرح التجريبي"، قائلاً إنَّ فاروق حسني أطلق المهرجان بهدف "إفساد ذوق المتفرّج المصري"، وعمل على ذلك طيلة ثلاثة عقود، فرفع الأخيرُ دعوى قضائية ضدّه بتهم "القذف والسب والتشهير".

لم يُغلَق "مسرح الفن" ولم يتعرّض للهدم، لكنّ وسائل إعلام محلّية نشرت، قبل سنتَين، تقارير عن تحوُّله إلى قاعة لتقديم الدروس الخصوصية لطلّاب الجامعات.

في السينما، قدّم الشرقاوي عدداً من الأفلام؛ منذ فيلمه الأوّل "أرملة وثلاث بنات" الذي أخرجه عام 1965، واقتبسه السيّد الشوربجي عن مسرحية "الغربان" للكاتب الفرنسي هنري بيك؛ حيث تلته مجموعةٌ من الأفلام التي أخرجها أو شارك ممثّلاً فيها؛ من بينها: "صبيحة" (1970)، و"أمّهات في المنفى" (1981)، و"خلّي بالك من عقلك" (1985)، و"البدرون" و"الخاتم و"من خاف سلم" و"موعد مع القدر" (من إنتاجه)؛ وجميعُها أُنتجت عام 1987، و"البحث عن طريق آخر" (1992)، و"عمر من البهجة" (2000)، كما شارك في عددٍ كبير من المسلسلات الإذاعية والتلفزيونية.

درس الشرقاوي المسرح والسينما ودرّسهُما؛ فقد حصل على بكالوريوس من "المعهد العالي للفنون المسرحية" عام 1958 ودبلوم إخراج من "معهد جوليان برتو للدراما" في فرنسا عام 1960، ودبلوم إخراج من "المعهد العالي للدراسات السينمائية" في فرنسا عام 1962، قبل أن يُدرّس التمثيل والإخراج، منذ عام 1962، في "المعهد العالي للفنون المسرحية" الذي تولّى عمادته بين عامَي 1975 و1979.

هذا الجانبُ الأكاديمي سيحضر بشكل بارز من خلال مؤلّفاته في المسرح والسينما؛ ومن بينها: "مدخل إلى دراسة الجمهور في المسرح المصري باللغة العربية"، و"السينما في الوطن العربي"، و"حياتي في المسرح"، و"كواليس وكوابيس: قصّة مسرح الفن"، و"الأسس في فنّ التمثيل وفنّ الإخراج المسرحي". ومن هذا الكتاب نقرأ: "لا أستطيع أن أقول إنّنا وصلنا إلى نتائج حاسمة، بل ربما تكون النتيجة الوحيدة الحاسمة التي وصلنا إليها هي أنّه لا حدود ولا نهاية للتجريب".

آداب وفنون
التحديثات الحية
المساهمون