رحل أمس الإثنين عادل محمود، الشاعر والروائي والقاص والصحافي السوري (1946 - 2022). ويمكنُ لترتيب العبارة التي تقدّمه هنا أن يختلف من غير أن ينقص المعنى أو يحيد عن توصيف أعماله. مع الإشارة إلى أنّ الراحل كان شاعراً في كلّ الأشكال التي كتبها. فالشعر لديه متقدّم على التجربة، كما لو أنّه كان يمتلئ بالأشياء قبل أن يقولها، قبل أن يفقدها ما إن يقولها. الأمر الذي جعل أشكال قولهِ تدور حول حكمةٍ ما، حكمة خارجة من تجربتَي العيش والقراءة معاً.
ولربما أكثر الحِكم التي ارتبطت به في السنوات الفائتة، حديثهُ المتكرّر عن الطائر الذي كان يُحضر الطعام لصغاره، ثمّ عندما بدأت الغابة تحترق، شرع بالعمل كإطفائي. ليس متعذّراً على القارئ أن يلمح الاستعارة التي قصدها، فالغابة هي بلده، والطائر الذي يطفئ الحريق، هو الشاعر، هو عادل محمود.
ينتمي صاحب "الليل أفضل أنواع الإنسان" (2015) شعريّاً إلى جيل السبعينيات الذين ثبّتوا قصيدة النثر، قصيدته ملأى بما هو مُتَغافَلٌ عنه في الحياة؛ لا شعارات، لا آمال، لا أسئلة كبرى. وإنّما يحضرُ لديه ذلك الميلُ العاطفي إلى تأطير الزمن بموضوعاتٍ تُقَنِّن عبوره، تنفيه، وتجعل منه مجرّد مفردة؛ موضوعاتٍ كالحبّ والندم والنسيان. بدأ عادل قاصّاً عبر مجموعته القصصية "القبائل" (1979)، وشاعراً في ديوانه الأول "قمصان زرقاء للجُثث الفاخرة" (1978)، وله العديد من الدواوين الشعرية على امتداد تجربته كـ"مسودّات عن العالم" (1982)، و"استعارة مكان" (2000)، و"انتبه إلى ربما" (2006). أمّا صحافيّاً، فقد جمع عدّة كتب في المقال؛ أشهرها "ضمير المتكلم" (2000)، و"بريد الغرباء" (2008).
كان شاعراً في كلّ الأشكال الإبداعية التي كتب ضمنها
خدم عادل محمود مراسلاً ميدانياً أثناء الخدمة العسكرية الإجبارية رفقة ممدوح عدوان (1941 - 2004)، وكان عدوان يدعوه "مراسل الهزائم". وأكثر ما كان يريد أن يراه في حرب تشرين/ أكتوبر (1973) الفتك بجنود الغزو الصهيوني. كما عاش قريباً من الفلسطينيّين على مراحل مختلفة من حياته، وعمل معهم في الصحافة بدمشق، وفي المنفى بين عامي 1983 و1994. له مقولة عن الشعر الفلسطيني: "أنا لا أعرف الكتابة مثل الشعراء الفلسطينيين لأنّهم أولاد مكانٍ أُصيبوا جرّاء فقده بنوع من الحنين القاتل". سواء أكان مصيباً في قوله أم لم يكن، لكن هذه الإحالة تنطوي على شيء من فلسفة عادل محمود التي تجعله متوارياً هادئاً خجولاً، يقدّم الآخرين عليه. وكأنّه يهاب أن يفاجئ الحياة أو أن يجرحها بانتباهها له. كذلك جاء موته بعد فترة غيبوبة؛ فهو لم يفاجئ الموت، لم يجرح الموت بانتباهه له.
تنطوي روايات صاحب "شكر للندم" (2015) على جوانب من سيرته، بصورة يبدو معها أنّ رؤيته أساساً لفنّ الرواية، هي تطعيم الكتابة الذاتية بالخيال، بالقدر الذي يجعل القارئ يلتقي مع النّص في حدود مشتركة يقوم الأدب ويتحقّق بها. ويجد القارئ نفسه في رواياته، في حضور الحبّ العاجز أو الحبّ المكسور أو الحبّ المحكوم بالغياب وضروب الحنين والاستحالة. ورواياته شهادة عن الزمن الذي عاشه، إذ ترتبط روايته "إلى الأبد ويوم" (2008) بحقبة الثمانينيات.
فيما ترتبط روايته "قطعة جحيم لهذه الجنة" (2017) بالراهن الذي يشهده بلده منذ عقد، حيث تمثّل روايته هذه الجانبَ الذي وجد نفسه فيه، أو اختاره، وهو؛ البقاء في بلدٍ يعرف أنّ العيش فيهِ إهانة. ولربما الوعي بذلك ينقذ المرء من جحيم أن يكون مُهاناً. خصوصاً أنّ عادل محمود كان، كمثقف، أقرب إلى التعبير الاجتماعي الثقافي منه إلى السياسي. بما يمثّله حضور المثقف بين ناسه، والاستمرار بتقديم فكرته عن النزاهة، ما أمكنه ذلك، في بلدٍ كسورية. حيثُ تحترق الغابة ويحترق الطائر؛ بل، ويحترق الماء... وقصارى جهد الطائر أن يسعى لإطفاء الحريق الذي سيُصيّرهُ رماداً.
* روائي من سورية