عن ستة وتسعين عاماً، رحلت في باريس، الليلة الفاصلة بين أمس السبت واليوم الأحد، الفنانة التشكيلية والشاعرة اللبنانية السورية إيتيل عدنان.
وُلدت عدنان في بيروت عام 1925 لأب سوري مسلم من دمشق كان ضابطاً عثمانياً في حامية بيروت، ولأم يونانية مسيحية من مواليد إزمير، واصطبغت حياتها بهويات المشرق العربي المتعددة وحسنة التجاور.
نشأت الشاعرة ودرست في بيروت بمدارس الإرساليات الفرنسية، وفيها بدأت حياتها الأدبية وأصدرت مجموعتها الشعرية الأولى، وفيها تعرّفت بالوسط الثقافي اللبناني وبالشاعر جورج شحادة (1905 - 1989). كتبت إيتيل عدنان معظم أعمالها بالفرنسية في الجزء الأول من حياتها، والإنكليزية في ما بعد، كموقف سياسي من المكوّن الاستعماري في الثقافة الفرنسية، وطالما اعتبرت نفسها "شاعرة عربية تكتب بالإنكليزية والفرنسية"، وإن لم تتعلّم العربية لتستطيع الكتابة بها، وكانت تتحدث إلى جانبها التركية واليونانية، وتعتز بهذه المكوِّنات الثلاثة في هويتها.
اصطبغت حياتها بهويات المشرق العربي المتعددة وحسنة التجاور
غادرت عدنان مسقط رأسها في الرابعة والعشرين من عمرها، حين ذهبت لدراسة الفلسفة في جامعة السوربون بباريس، وقد دفعتها ميولها الإبداعية إلى التخصّص في فلسفة الفن، ومن ثمّ قررت مواصلة رحلة تحصيل المعرفة في الجامعات الأميركية، لتدرّس الفلسفة لاحقاً في جامعة بيركلي.
وفي أميركا، التي اكتسبت جنسيتها، نشرت الكثير من أعمالها وقضت الشطر الأكبر من حياتها في ولاية كاليفورنيا، كما لم تنقطع عن زيارة بيروت، إلى أن اضطرت للزوم باريس في السنوات الأخيرة بعد أن أصبح السَّفر شاقاً عليها.
في عالمها التشكيلي، تبدو إيتيل عدنان، بألوانها وتركيباتها ومفرداتها البصرية أقرب إلى طفلة رائية تلعب بالألوان. ولكن تميّز أعمالها بالتنوّع والعمق يؤكّد أنها أسندت تجربتها الفنية بمعرفة نظرية ثرية.
أما تجربتها الشعرية فوصلت العربية من خلال ترجمات أنجزها الشاعر العراقي سركون بولص عن الإنكليزية ("هناك – في ضياء وظلمة النفس والآخر"، منشورات الجمل، 2000)، والشاعر التونسي خالد النجار عن الفرنسية (ستّ مجموعات شعرية صدرت في كتب مزدوجة اللغة عن "دار التوباد" في تونس، من بينها "يوم في نيويورك"، 2006، و"هذه السماء الغائبة"، 2008)، إلى جانب ترجمات أخرى سبقت وتلت هذه الترجمات.
وفي النثر ترجم لها جيروم شاهين رواية "الست ماري روز" (المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1979)، وترجمت مي مظفر كتابها السردي الممتلئ بالشعرية "باريس عندما تتعرّى" (دار الساقي، 2007).
امتاز شعر إيتيل عدنان بحساسية لقضايا التحرر، وللسكّان الأصليين للولايات المتحدة، ولرفض الهيمنة الاستعمارية في بلدان كفلسطين والعراق حيث "أوروبا مغطاة بالبترول المحترق". تكتب في قصيدة مؤرخة بـ 27 تشرين الأول/ أكتوبر 2013: "انظروا عبر التلفزيون إلى إخوانكم يموتون/ لا تحرّكوا ساكناً/هم الآن في عالم آخر جديد/ بلا منفذ".
في السنوات الأخيرة، حظيت عدنان بالكثير من التكريمات، خصوصاً في المجال الفني حيث نُظّمت الكثير من المعارض الاستعادية التي تحاول أن تلامس مجمل تجربتها الإبداعية عبر محامل اللوحة والكرّاسة الورقية أو عبر تقديم مخطوطاتها ليس باعتبار هذه الأخيرة كتابات شعرية أو سيرذاتية فحسب، بل أيضاً كأعمال فنية مكتفية بروعتها البصرية. ومن آخر وأبرز الاحتفاءات المعرض الاستعادي الذي افتتح في "متحف غوغينهايم" بنيويورك، في الثامن من تشرين الأول/ أكتوبر الماضي تحت عنوان "مقياسٌ جديد للضوء"، ويستمر حتى العاشر من كانون الثاني/ يناير من العام المقبل.
وهاهي ترحل في وقت يقام، منذ السادس من الشهر الجاري، في مدينة ماتز (شمال شرق فرنسا) معرض جماعي بعنوان "أن تكتب يعني أن ترسم" تقوم فكرته على حوار عدة مبدعين مع مخطوطات إيتيل عدنان وتَمثُّلهم لهذه القدرة في تحويل المخطوط إلى عمل تشكيلي مستقل بذاته.
حول هذا المعرض، خصّصت صحيفة "لومند" الفرنسية أوّل أمس - أي في اليوم ما قبل الأخير من حياة الفنانة اللبنانية - قراءة موسّعة فيه كتبتها الناقدة إيمانويل لوكو، ومن ضمن ما قالت: "تبلغ إيتيل عدنان ستة وتسعين عاماً، ولكن تبدو وكأنها عاشت ألف عام".