رحيل أندريه ميكِل: ستّون عاماً في صداقة العربية وآدابها

31 ديسمبر 2022
أندريه ميكِل في صورة تعود إلى تسعينيات القرن الماضي (Getty)
+ الخط -

ما يقرب الستّين سنةً كاملة قضّاها المُستعرب الفرنسيّ أندري ميكِل في تدريس تاريخ اللغة العربيّة وآدابها في "كولّج دو فرانس"، المؤسسة البحثيّة العريقة الواقعة في قلب باريس. وقد تبوّأ ميكِل هذه المكانة بفضل تضلّعه في تاريخ الحضارة العربية وإنتاج ما يناهز خمسةً وثلاثين كتابًا خَصّص جميعَها لدراسة ثقافات الإسلام وآداب أهله وتصاريف الضاد، فضلًا عن ترجمة عددٍ من النصوص الرئيسة فيها، مثل "ألف ليلة وليلة" (2005)، الذي استعاد مُدوَّنَتَه الأصليّة المطبوعة في بولاق، بالتّعاون مع رفيق دَربه جمال الدين بن الشيخ (1930 ــ 2005)، و"قصائد المَجنون" (2016)، التي هام بها، كهُيام قيسٍ بليْلاه العامريّة، و"كليلة ودمنة" (1957) بما فيها من حِكَم ابن المقفع، وغيرها، متسلّحًا في كلّ ذلك بـ معرفة دقيقة لصيغ العربية الكلاسيكيّة وأنظمة مَجازاتها.

يوم الثلاثاء الماضي، السابع والعشرين من هذا الشهر، رحل صاحب "الإسلام وحضارته"، في باريس، عن 93 عاماً (1929 ــ 2022). بدأ ميكِل رحلته العلميّة بأطروحة دُكتوراه (طُبعت في أربعة أجزاء بعنوان: "الجغرافيا البشريّة للعالَم الإسلامي"، 2001) خَصّصها لدرس "صورة الأرض" والرحلة، وما شَكّلَه من إنشاء استباقيّ لعِلم الجغرافيا، بقسمَيْها الطبيعي والبَشريّ، حيث تعمّق في عرض التمثلات الثقافيّة التي حرّكت الرحّالة العرب والمسلمين فجعلتهم يَزورون بلدانَ الشعوب الأخرى ويصفونَ تضاريسها وأقاليمها وحضاراتها بشكل علميّ، حتى شكّلت هذه التوصيفات الدقيقة إرهاصًا لعِلمَي الإثنوغرافيا والأنثروبولوجيا الحَديثَيْن، كما نَظّر لهما كلود ليفي ستروس. وقد ركّز ميكِل في أطروحته على نظرة العرب والمسلمين للثقافات المباينة التي زاروا مناطِقَها واحتكّوا بأهاليها في أقاصي العالَم المعروف وقتها، الممتدّ إلى الصّين والهند وأدغال أفريقيا. 

ومن جفاف الوصف الجغرافيّ وصرامة أسلوبه، انتقل ميكِل إلى دَرس رقّة الشعر الغَزَليّ وعاطفة العشق المشبوبة من خلال استعراض نصوص النّسيب بنَوعيْهِ الإباحيّ والعذريّ، مقارنًا إيّاها بتجارب الحبّ في فرنسا أثناء القرون الوسطى، ومؤكدًا خصوصيّة العشق العربيّ واستحالة نقل معانيه ومَراتبه الشعوريّة إلى اللغات الأوروبيّة. وممّا يُذكر في هذا الصدد، تَحليلُه الطريف لمفهوم "الطّرب" الذي يستحيل نقله إلى الفرنسيّة بسبب تعقّد مُكوّناته وارتباطها بالقلب والأنس فَمَيَلان الجسد بسبب ما يُحدثه الشِّعْر من هزّةٍ لدى السامعين.

عُرف بابتعاده عن الأحكام المسبقة والمفاضلة بين الثقافات

ولم تَمنع دراسة الغراميّات ميكِل من الاهتمام بقضايا الإسلام الحديث بعدَ انخراطه في متغيّرات التاريخ السياسيّ والاجتماعي والعسكريّ إثر صَدمة الحداثة وانتصاب الحركات الاستعماريّة في بلداننا. ولذلك محّضَ بعض الدراسات، ولا سيما تلك التي أنجزها برفقة زميله المُؤرّخ الفرنسي دومينيك شوفالييه (1928 ــ 2004)، لتاريخ الدّول العربية إبّان الاستعمار وبعده، وهو ما سجّل في رَأيه انتقال "العرب من الرسالة إلى التاريخ" (1995)، التاريخ الحديث بما فيه من هزّاتٍ أحْدَثَها الارتباط بأوروبا وحروبها العالميّة والتشابك مع القيم الجمهوريّة والنظام العلمانيّ الذي يعارض، وإنْ ظاهريًّا، روحانيّة الإسلام ونمط حضوره في الفَضاء العام.

كما أسهمت بعض كتُبه الموجّهة إلى الجمهور العريض في التعريف بالإسلام وتاريخه وشخصياته ومفاهيمه الأساسية لدى القارئ الفرنسي العادي، مثل كتابه: "الإسلام وحضارتُه"، الذي طُبع أكثر من سبع مرّات، آخرها سنة (2003) بتحيين من زميله هنري لورانس (1953)، ومثل "الأدب العربيّ" (1981) الذي صدر ضمن سلسلٍة ذائعة الصّيت واسعةِ الرواج عنوانها "ماذا أعرف؟"، وقد خصّص هذا العمل لإبراز خَصائص كلّ حقبةٍ من حقب تاريخ الآداب العربية، بعد أن قسمها إلى أربعٍ. 

ولم يُهمل ميكِل الدّراسات القرآنيّة، وهي من صَميم المباحث في الإسلاميّات، فقد عُرف بترجمة سورة الواقعة (1992) وتفسيرها بالاعتماد على أهمّ الروايات الإسلاميّة وعلى كتب المفسّرين، كالطّبَري والرّازي خصوصًا، مع استعراض ستَّ عشرةَ ترجمة سابقةً وتصحيحها وبيان الصفات الأسلوبيّة واللغويّة والدينيّة المتّصلة بكل آية على حدةٍ. وقد انتقدَ الباحثُ الفرنسيّ كلود جيليو (1940)، المتخصّص في علوم القرآن، هذا العملَ لأنّه تبنّى وجهةَ النّظر الإسلاميّة.

من أبرز مَن اهتمّوا في فرنسا بأعمال الرحّالة المسلمين

نعم، كان أندري ميكِل يتبنّى وجهة النظر الإسلاميّة ويقدّرها. وليس هذا بعيبٍ، بل "فضيلة" عِلميّة توخّاها في كلّ ما كَتب طيلة عقود، فلم يُسقط النموذج الإنجيليّ، كما فعل جلّ المستشرقين، ولا تباهى بمقولات الثقافة الغربيّة "المتفوّقة"، بل ترك النصوصَ العربيّة القديمة تتحدّث بذاتها عن ذاتها، في احترامٍ حقيقيّ لخصوصيات هذه النصوص، ضمن تقليد جامعيّ فرنسي أرساه جاك بيرك (1910 ــ 1995)، وهو تقليدٌ يقدّر الثقافة الإسلامية ويدرك مدى إسهامها في الآداب والمعارف الإنسانيّة، بوصفها حلقة وصْل بين اليونان والغرب، لا ينكر فَضلها، وهي التي تشكل الهويّة العميقة لكلّ المسلمين، على تنائي ديارهم وعصورهم.

وقد ظلّ إلى السّنوات الأخيرة من حياته ــ وقد أناف على التّسعين ــ يُحاضر في مختلف المؤسسّات العلميّة الفرنسيّة ويواصل ترجمة القصائد القديمة، رغم وُعورة مَبانيها وإغراقها في الغريب من المفردات وصور البيان. واشتهر بتواضعه واستقباله للأساتذة العَرب وتبادل الحديث مَعهم في مقاهي ساحة السّوربون.

تركَ النصوصَ العربيّة القديمة تتحدّث بذاتها عن ذاتها

وكان ميكِل يصوغ دراساته وآراءه في لغة فرنسيّة شديدة الأناقة والجماليّة. وأذكرُ هنا طرفةً للتاريخ، رواها الأستاذ عفيف بن عبد السلام، الذي كان صديقًا له وقد حَضر مناقشة أطروحته لنيل درجة الدكتوراه، حيث أطراه ريجيس بلاشير قائلاً: "سيّد ميكِل! أنت تَكتب بشكلٍ جميل جدًّا جدًّا"؛ غامزًا بذلك إلى أنّ أسلوبه الأنيق قد يُخفي أحيانًا حقِائق العلم وصرامته.
نعم، كان أسلوبه شِعريًّا، يَسير في عفويّةٍ وعمق، من قماشَة النصِّ على النصّ، يُضارعُ ألَقَ قصائد الغزل العربية القديمة وطلاوة نسيبها، بألق ريشته الفرنسيّة. ولعلّ ميكِل من آخر حبّات ذلك العُنقود الرّطيب وثلّة المُستعربين الذين كانوا يدرسون حضارَتَنا بشغفٍ ويَعرضونها بأمانةٍ، مع تقدير صادق لخُصوصياتها، رغم مرجعياتهم الوضعيّة الباردة.


* كاتب وأكاديمي تونسي مقيم في باريس

آداب وفنون
التحديثات الحية
المساهمون