رام الله في ثلاث ساعات

13 اغسطس 2023
عباد يحيى خلال توقيعه "رام الله الشقراء"، رام الله 2013 (دار الفيل)
+ الخط -

حين جاءت اللحظة الغريبة وغير المرتقَبة لقراءة رواية "رام الله الشقراء" (دار الفيل، 2013) لكاتبها الفلسطيني عبّاد يحيى، وأقول اللحظة الغريبة وغير المرتَقبة؛ لأنّ قراءة الروايات ليست إحدى نشاطاتي المعتادة كنت أتوقع قراءتها عبر أسبوع أو عدة أيام على الأقل.  لكن ما إن بدأتُ في صفحتها الأُولى، حتى وصلتُ، بعد ثلاث ساعات فقط، إلى صفحتها الأخيرة.

مع ذلك لم تنتهِ الرواية. يوجد رواياتٌ فيها عالَم لا ينضب من الغذاء كي تتمكّن من الاستمرار، ورواية "رام الله الشقراء" هي واحدة من هذه الروايات التي لا يُستهلك غذاؤها، فهي لا تعيش من مشاعرنا العارضة، الثانوية والعابرة، أي لا تعيش من رومانسية القارئ، بل تعيش من أفكارها وموضوعاتها التي تحيك شبكة من العلاقات الحيوية والدقيقة واللانهائية. ضمن هذا المعنى، أن يكتب الكاتب روايةً، يعني، بالنسبة إليّ، أن يهِب هذه الرواية شروط الحياة الأبدية. وهذا شأن "رام الله الشقراء".

لا يهجو الروائيُّ مدينة رام الله ولا يمدحها، بل يوثّق ويعتبر

تقوم القيمة المميّزة لهذه الرواية، ليس في الإعلان عن روائيّ جديد فحسب، بل عن أسلوب جديد في كتابة الرواية، وربما هذا تحديداً ما دفعني للكتابة عنها. يأخذ عبّاد يحيى مدينة رام الله الفلسطينية كنص وثائقيّ، لا يتوقّف عن قراءته، ماضياً، حاضراً ومستقبلاً. فِعل القراءة هنا قد يبدو للوهلة الأُولى أنّه من أجل الهجاء، لكنّ الروائي الفلسطيني لا يهجو ولا يمدح، بل يروي، ويوثّق، ويشاهد، ويراقب، ويعتبر.

في هذه القراءة، نكتشف أنّ مدينة رام الله نصّان، نصٌ ظاهر، وآخر مختبئ، يشبه صراخاً قوياً في وجه نصّها المُعلن. غير أنَّ الروائي يعيش المدينة بنصّيها، بأسوارها وأبوابها، بأَقفالها ومفاتيحها. وحتى لو بدت المدينة مبتورة، إلّا أنّ أحلام الروائي، وأفكاره، وتأمّلاته تُكملها.

الصورة
رام الله الشقراء

أن يقرأ عبّاد يحيى مدينةَ رام الله كنصّ وثائقي، يعني أنّه يعيش المدينة بشكل مزدوج: حياته وتاريخه هو، وحياة المدينة وتاريخها. تتشابك هاتان الحياتان في الجسد الإنساني. ومن خلاله، لا يروي يحيى موضوع الإنسان في المدينة، ولا يروي قصّة هذا الإنسان أو ذاك، بل يروي الإنسان؛ مشكلةَ الإنسان كساكن لهذه المدينة.

هناك روايات طويلة وغنية، نحتاج إلى أيام، وربما إلى شهورٍ كي نقرأها، ولكن بفضلها نفك مغاليق ما لا يُحصى من الأسرار. بالمقابل، ثمّة رواياتٌ قصيرة، تُقرأ في ثلاث ساعاتٌ - تماماً مثل رواية "رام الله الشقراء - لكن بفضلها نعيش في مُدُن لم نزُرها قطّ.


* شاعر ومترجم سوري مقيم في الأندلس

موقف
التحديثات الحية
المساهمون