راديو فيليبس.. أسفار خيالية داخل الليل

21 أكتوبر 2022
"الراديو القديم" لـ دومينيك سيروزييه، 2015
+ الخط -

راديو فيليبس، في أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي. الصندوق الخشبي، موبيليا "آر ديكو"، والعين السحرية. راديو فيليبس ببلّور لوحة التردّدات المضيئة، حيث تقرأ أسماء محطات موجة FM الطويلة أو الموجات القصيرة. محطّات راديو تونس، أبيدجان، الجزائر، ليون، بيروت، لوكسمبورغ، طنجة، باريس، مدريد، واشنطن، الرباط، القاهرة، موسكو، برلين، مرسيليا، سان فرنسيسكو، طهران، هلفرسم في قلب هولندا، دمشق. محطّات مكتوبة على لوحة جهاز الراديو البلّورية المضيئة في غير انتظام جغرافي.

آه لتلك المدن التي كانت تطير في الليل مع أصوات مذيعي محطّاتها حتّى تُوصل إليك بكثير من العسر أصواتاً متداخلة مع ضجيج تردّدات الموجات المجاورة وأنت في السّرير. أصوات بشر يتكلّمون في الناحية الأخرى من العالم. من خليج بنما أو من أبيدجان أو من سان بطرسبورغ أو من الأدرياتيك. أصوات تَبِين وتغور متردّدة مع تردّد الأمواج الأثيرية. أصوات عابرة الليل، عابرة القارات، عابرة البراري والبحار، عابرة المسافات المجهولة لتصل إليك في تلك العزلة المظلمة في ليل الشتاء وأنت في دفء سريرك تحت الأغطية والبطّانيات.

محطّات إذاعية تبث برامجَ حميمية، شهادات أناس حول مشاكلهم العاطفية وعزلتهم المريرة، تمثيليات قصيرة. أتذكّر حوارات نادرة مع طه حسين وأندريه جيد وتسجيلات قديمة للوركا وبابلو نيرودا وهو يقرأ أشعاره بذلك الصوت المجروح. موسيقى كلاسيكية تتردّد مع ذبذبات الموجة. أتذكّر محاضرات جامعيّة كانت تبث من "راديو تونس" (RTS) عن رموز الغُراب والشتاء في القرون الوسطى. قبل أن يظهر التلفزيون ويقضي على رومانسية الاتصالات، على عمل المخيّلة.

أبطلت الصورة عمل المخيلة، لأنك لا تتخيّل سوى ما لا تراه؛ صار المُشاهد يتكبّد الصورة، صار بتعبير آخر يخضع للصورة، ضحية الصورة، وضمرت مخيّلته. اليوم يُباع هذا الراديو الخشبي الموبيليا في دكاكين العاديّات، لا يقتنيه سوى الأثرياء حنيناً لعالم كان الإنسان يستطيع فيه أن يخلو إلى نفسه ويحاورها، كما دعا كارل غوستاف يونغ.

يجب على المرء أن ينمّي في نفسه فنّ التحدث إلى نفسه. ولكن، أما يزال هذا الإنسان الذي يعيش مع الشاشات التي حلّت محلّ العالم الواقعي قادراً على الحديث مع نفسه؟


* شاعر ومترجم تونسي مقيم في أمستردام

موقف
التحديثات الحية
المساهمون