تستعيد هذه الزاوية شخصية ثقافية عربية أو عالمية بمناسبة ذكرى ميلادها، في محاولة لإضاءة جوانب أخرى من شخصيتها أو من عوالمها الإبداعية. يصادف اليوم، الأول من تموز/ يوليو، ذكرى ميلاد المخرج السوري مصطفى العقاد (1935 – 2005).
كان مصطفى العقاد الذي تحلّ اليوم الخميس ذكرى مولده، يذهب في طفولته إلى صالة "سينما أوبرا" في مدينته حلب، حيث كان يشاهد الأفلام المعروضة برفقة جاره جون كليدس الذي كان يشغّلها ويقوم بحذف المقاطع التي تعتبر غير لائقة، حيث كان يشاهد كلّ فيلم عدّة مرات متعلّقاً بالصورة منذ ذلك اليوم.
اقتنى المخرج السوري (1935 – 2005) آلة عرض صغيرة آنذاك، وتشكّل حلمه بدراسة السينما الذي وصفه شقيقه زهير بقوله "في ذلك الوقت، هذا الكلام كمن يقول: سأذهب إلى القمر للدراسة"، وأثار ذلك سخرية محيطه وهو في الرابعة عشرة لأنه أراد أن يصبح مخرجاً في هوليوود.
رحَل قبل أن يحقق حلمه بإنتاج فيلمين عن صلاح الدين الأيوبي والأندلس
ودّعه والده في بيروت ليسافر منها إلى الولايات المتحدة، ووضع في جيبه مئتي دولار كلّ ما استطاع تدبيره حينها، وفي جيبه الآخر نسخة من المصحف، وما أن وصل إلى كاليفورنيا حتى عاش فترة دراسة قاسية بسبب فقره واضطراره للعمل في ثلاث وظائف لتأمين مصاريفه، ما أثّر كثيراً في شخصيته العصامية مؤمناً أن عليه الكدّ والتعب حتى يحقّق أمنيته.
حاز العقاد درجتي البكالوريوس والماجستير في الإخراج السينمائي من "جامعة جنوب كاليفورنيا"، وأنتج العديد من البرامج التلفزيونية وهو لا يزال على مقاعد الدراسة، وكان فاعلاً في الحياة الجامعية بحكم ترؤسه اتحاد الطلبة العرب، وكان منفتحاً على الثقافة الغربية مع اعتزازه الكبير بانتمائه إلى الحضارة العربية الإسلامية.
تروي زوجته باتريسيا في الفيلم الوثائقي "هل تستمر الرسالة؟" للمخرج المغربي محمد بلحاج، أن العقاد كان مشغولاً في بداية زواجه بإخراج فيلم يقدّم سيرة النبي محمد إلى الغرب، فعاد إلى بيروت لتأسيس شركة إنتاج فيها من أجل التحضير لفيلم "الرسالة" الذي استغرق وقتاً طويلاً في التأليف، وأخذ موافقات الهيئات الدينية الإسلامية.
لم ينل الفيلم الذي أنتج بنسختين بالعربية والإنكليزية بفريقي عمل مختلفين، موافقة رابطة العالم الإسلامي في السعودية التي حظرت عرضه، ما أثّر على تمويله الذي أتى من ليبيا والمغرب، حيث تمّ تصويره على أرض الأخيرة، وواجه العديد من الاعتراضات والضغوط لمنع استمراره في عمله، حتى خرج إلى النور عام 1976، وعُرض في لندن للمرة الأولى.
حقق الفيلم انتشاراً واسعاً حيث عرضته ثلاثة آلاف صالة في الولايات المتحدة، رغم اندلاع مظاهرات قادتها جمعيات إسلامية لمنع تقديمه، لكن بعد أن هدأت الضجة استطاع العمل أن يحظى باحترام وتقدير كبيرين في العالميْن العربي والغربي، من قبل النقاد والمشاهدين على حدّ سواء.
لم ينقطع العقاد عن حلب التي كان يزورها تباعاً ويلتقي أصحابه والعديد من المثقفين، وكذلك عدد من المدن العربية، حيث بدأ التفكير بعد نجاح "الرسالة" إلى صنع فيلم جديد يمثّل تجربة التحرّر الوطني في العالم العربي، ووقع خياره على شخصية المناضل الليبي عمر المختار، لأسباب عديدة منها أن انتهى نضاله بالاستشهاد وليس منفياً كما حصل مع العديد من المناضلين العرب ضدّ الاستعمار.
بجهود مضنية بذلها الراحل للتغلّب على صعوبات الفيلم الجديد الذي يحتوي مشاهد معارك حديثة قدّمها بسوية فنية عالية، إلى جانب حرصه على الاعتناء بكافة التفاصيل من موسيقى وإضاءة وديكور، والدخول بحوارات طويلة لا يغيب عنها الاختلاف أحياناً مع جميع طاقم العمل، مع اعتداده برؤيته التي كان يبنيها معطيات مختلفة.
عُرض على العقاد إخراج أفلام حول شخصيات العديد من القادة العرب لكنه رفض ذلك، وأصرّ على تقديم ما يتوافق مع قناعاته وثوابته، محاولاً إنتاج مشروعين ظلا يراودانه حتى النهاية أحدهما حول شخصية صلاح الدين الأيوبي، وثانيهما عن الحضارة العربية في الأندلس، لكنه لم يجد تمويلاً لهما رغم الموافقات المبدئية من قبل جهات عدّة لم توف بوعدها.