تستعيد هذه الزاوية شخصية ثقافية عربية أو عالمية بمناسبة ذكرى ميلادها، في محاولة لإضاءة جوانب أخرى من شخصيتها أو من عوالمها الإبداعية. يصادف اليوم، العشرون من تموز/ يوليو، ذكرى ميلاد المطرب المصري محمد رشدي (1928 – 2005).
في بداية الأربعينيات، تعلّم محمد رشدي الذي تحلّ اليوم الثلاثاء ذكرى ميلاده بعض الأدوار الغنائية القديمة والموشحات، والعزف على العود، وكان ذلك على يد محمود الدفراوي معاون الصحة في بلدته دسوق، كما عالجه من "الإنكلوستوما"؛ أحد الأمراض المعوية التي كانت تؤثر على نمو الأطفال في الريف المصري آنذاك.
بعد ذلك بسنوات عدّة، بدأ المطرب المصري (1928 – 2005) الغناء في الأفراح ليؤدي خلالها أغاني لعدد من الفنانين، وفي مقدمتهم ليلى مراد، كما يروي الباحث سعيد الشحات في كتابه "مذكرات محمد رشدي - موال أهل البلد غنوة" (2020)، إلى أن أقام كامل إبراهيم وفرقته، التي كانت تصاحب محمد عبد الوهاب، حفلاً في دسوق، فعرض على رشدي الانتقال إلى القاهرة لكنه عرضه قوبل برفض والده.
غير أن صدفة أخرى غيّرت مسار حياته، حين اشترك في الدعاية الانتخابية لأحد المرشّحين في المنطقة، والذي ساعده في دخول "معهد فؤاد الموسيقي"، وقدّمه أيضاً إلى أم كلثوم التي أحيت حفلاً وأعجبت بصوته، وكذلك إلى محمد حسنين هيكل حيث كان يعمل الأخير في مجلة "آخر ساعة"؛ وقائع عديدة شكّلت حلم الفتى الذي ظنّ أنه لن يغادر بلدته يوماً ما.
وخلال فترة الدراسة، وفي محطّة قطارات طنطا سيلتقي رشدي بالصدفة مدرس موسيقى في أحد ملاجئ الأيتام يدعى عبد الحليم شبانة (حافظ) وسيصبحان صديقين مقرّبين منذ اللقاء الأول، وستتوالى الأحداث حتى يقدّم رشدي أولى أغانيه "سامع وساكت ليه"؛ أداء وتلحيناً، في الإذاعة المصرية عام 1951 لقاء سبعة عشر جنيهاً، وسيغني في العام نفسه "يا مين يطمني" و"على الجبين مكتوب" و"يا مصر يا بلادي".
في عام 1952، قدّم أغنيته "قولوا لمأذون البلد" التي ستنال انتشاراً واسعاً وتفتح لصاحبها أبواب الشهرة، وبعد شهرين، وقعت حركة 23 يوليو واستولى الضباط الأحرار على الإذاعة، وكان من المقرّر أن يسجّل رشدي إحدى أغانيه، فطلب منه محمد أنور السادات الذي أذاع بيان الثورة للتو أن يغني "قولوا لمأذون البلد" فرحاً بالثورة الجديدة، التي سيرتبط اسم رشدي بها ويحلم مع أبناء جيله بالتغيير لكن الثورة ستضحّي بأبنائها لصالح "قلة نهبت البلد"، على حد تعبير رشدي عام 1990.
"كسرنا قيد الهوان بعزم زي الحديد، دلوقتي آن أوان نبني الوطن الجديد"؛ مفتتح الأغنية التي قدّمها رشدي في تشرين الثاني/ نوفمبر 1952، حيث سيواصل دربه بمزيد من الأغنيات الوطنية والعاطفية لكنه سيوجّه لنفسه انتقادات واسعة بسبب عدم قدرته على الخروج عن القالب الذي عرفه به الناس، وهو قالب يحاكي أسلوب محمد عبد المطلب كما يقول في مذكراته.
في الستينيات، استطاع رشدي أن يلفت الأنظار إليه مع تأديته "ملحمة أدهم الشرقاوي" حيث راجت المواويل التي قدّمها بلسان البطل الشعبي الذي تمّت أسطرة سيرته، وسيظهر على مسرح الأحداث عبد الرحمن الأبنودي الذي ألّف قصيدة بعنوان "تحت الشجر يا وهيبة.. يا ما كلنا برتقان" ويختار رشدي لغنائها عام 1964، وسيلتقى الاثنان على فهم ورؤية جديدين للأغنية المصرية في جملة من الأعمال الراسخة في الذاكرة الشعبية.
انضمّ إليهم بليغ حمدي الذي وصف رشدي بـ"أخناتون يغنّي"، وتعاون ثلاثتهم في أغاني مثل "الواد م البحر الأحمر"، و"وسّع النور"، و"بلديات"، و"آه يا ليل يا قمر"، و"عدوية"، وغيرها. وفي تلك الفترة، شارك محمد رشدي في عدد من الأفلام السينمائية، منها "المارد" عام 1964، و"الزوج العازب" و"حارة السقايين" عام 1966 و"فرقة المرح" عام 1970، ولعب دور البطولة في أول فيلمين للمخرج كمال صلاح الدين، وهما "عدوية" عام 1968، و"ورد وشوك" عام 1970.
استمرّت هذه النجاحات حتى أواخر الثمانينيات، وقدّم رشدي بعدها العديد من الأعمال منها "متى أشوفك"، و"تغريبة" و"دامت لمين"، وكان يستعد لإصدار ألبوم جديد بعنوان "البيت القديم" قبل رحيله حيث عانى في سنواته الأخيرة من فشل كلوي حاد وهشاشة العظام وسرطان البروستاتا قبل أن يسقط أثناء تصوير الألبوم ويُنقل إلى المستشفى حيث رحل هناك.