تستعيد هذه الزاوية شخصية ثقافية عربية أو عالمية بمناسبة ذكرى ميلادها، في محاولة لإضاءة جوانب أخرى من شخصيتها أو من عوالمها الإبداعية. يصادف اليوم السادس من تشرين الأول/ أكتوبر ذكرى ميلاد المعماري السويسري الفرنسي لو كوربوزييه (1887 – 1965).
في كتابه "نحو عمارة" (1923) وضع لو كوربوزييه الذي تحلّ اليوم الخميس ذكرى ميلاده، أفكاره الثورية حول العمران التي بدأت تلحّ عليه خلال الحرب العالمية الأولى، متجهاً أكثر نحو الأشكال الهندسية والطبيعة، والتي لخّصها بقوله: "لقد بدأ عصر جديد، وهناك روح جديدة".
سعى المعماري السويسري الفرنسي (1887 – 1965) إلى تقديم تقاليد البحر الأبيض المتوسط التي تراكمت في مجموعة حضارات تفاعلت في ما بينها وأنتجت طرزاً معماربة متطوّرة، مع انزياح أكثر إلى الشكل باعتباره العنصر الأساسي فيها بدلاً من الخضوع إلى وظائف البناء مثلما اتجه الكثير من المعماريين خاصة في العالم الجديد (الولايات المتحدة وكندا تحديداً).
عن الحضارات المصرية واليونانية والرومانية وعصر النهضة، ورث لو كوربوزييه إحساسه بالجمال وصرامة القوانين التي تنظّم المدينة كما حلم بها، ورأى أن "للعمارة أهدافاً أكثر جديةً، وفي مقدورها التسامي فوق ماديّتها والتأثير في أكثر الغرائز توحّشاً. إن العمارة هي التشكيل المتقن الرائع بالكتل المجموعة تحت الضوء".
رأى أن في مقدور العمارة التسامي فوق ماديّتها والتأثير في أكثر الغرائز توحّشاً
متأثراً بالرسم الذي مارسه طوال حياته والقصيدة التي ظلّت تراوده في مراحل مختلفة، بنى المعماري تصوّراته حول بناء مدينة معاصرة يسكنها ثلاثة ملايين نسمة، وظلّ يطوّر تصميمه هذا الذي واجه انتقادات عديدة آنذاك، حيث السيارات تمرّ في طرق مرتفعة لا يسير فيها المارّة وتتقاطع هذه الطرق بعضها مع بعض لتسهّل الوصول إلى وسط المدينة، ثمّ تتصل بطرق دائرية تحيط بالمدينة، بينما تكون ممرات المشاة منفصلة على مستوى الأرض وتجتاز الحدائق والمتنزهات.
نظرة لو كوربوزييه الرومانسية لا تنفصل عن مصالح الناس والمنافع التي يريدون تحقيقها في مدينتهم لكنها لا تتقيد بها، حيث لن يسير إنسان وسيارة في درب واحدة بالنسبة إليه، وستقام في وسط المدينة ناطحات سحاب ترتفع نحو خمسين طابقاً وتتباعد في ما بينها، ما يسمح ببناء حدائق في الفراغات الحضرية، وتخصّص هذه الأبراج للمباني التجارية، وتشيّد الأحياء السكنية على شكل حلقات تحيط بالمركز على ألا تتجاوز بناياتها خمسة أو ستّة طوابق، ثم تحاط تلك المساكن بحلقة من الأرض الخضراء يتجاوز عرضها أميالاً عدّة تفصل بين المدينة وبين المراكز الصناعية والميناء وغيرها من المرافق التي تسبّب التلوّث.
تشكّل الحديقة عنصراً أساسياً في جميع المناطق التي قسّمها في مدينته، بل إن الخضرة فيها تهيمن على الكتل الإسمنتية بالتأكيد، وربما يكون هذا التصميم من أكثر التصميمات التي تتم مناقشتها حول العالم إلى اليوم، ولا يزال يقدّم حلولاً مناسبة لأزمات المواصلات والنقل وتوزيع الخدمات دون أن يتخلّى عن الوظيفة الجمالية التي جعلها في مقدمة أولوياته.
وُلد شارل إدوار جانيريه في مدينة لا شو دي فون في سويسرا، والتحق بـ"مدرسة الفنون والحرف" في مدينة لاشوز دو فوند السويسرية وتعلّم الرسم وهو في السادسة عشرة، وانكب على دراسة الفلسفة والعمارة حيث وضع تصميمه الأول عام 1905، واتخذ لو كوربوزييه لقباً له منذ عام 1920 في فترة كرّس فيها وقته للرسم والتنظير حول العمارة.
صمّم لو كوربوزييه العديد من البيوت والفلل في فرنسا وسويسرا وألمانيا والهند، ومبنى عصبة الأمم في جنيف، وقصر السوفييت في موسكو، ومبنى وزارة الصحة في مدينة ريو دي جانيرو البرازيلية، والعاصمة الجديدة لولاية البنجاب الهندية وغيرها.