تستعيد هذه الزاوية شخصية ثقافية عربية أو عالمية بمناسبة ذكرى ميلادها، في محاولة لإضاءة جوانب أخرى من شخصيتها أو من عوالمها الإبداعية. يصادف اليوم، الخامس من حزيران/ يونيو، ذكرى ميلاد الشاعر الإسباني فيديريكو غارثيا لوركا (1898 – 1936).
بالنظر إلى تعطّل جهاز الترجمة العربي، أو اشتغاله بالحدّ الأدنى، شعرياً وسردياً وفكرياً، يسود اعتقادٌ بأنه إذا ما جرت ترجمة الأعمال الكاملة لكاتب أو شاعر أو مفكّر إلى العربية فقد أُنجز المطلوبُ وتحقّقت الفائدة وجرت استضافته على أكمل وجه. وهو اعتقادٌ يختصر قنوات الربط بين الثقافات في الترجمة وحدها في الوقت الذي توجد فيه جسور كثيرة أخرى ينبغي أن تشتغل جميعها وتتكامل.
الشاعر الإسباني لوركا هو أحد أشهر شعراء اللسان الإسباني في العالم العربي بلا شكّ، وقد حظي بترجمات كثيرة (محمد خليفة التليسي، محمود علي مكيّ، صالح علماني، حسين عبد الزهرة مجيد، سعدي يوسف...)، فهل يعني ذلك أن الثقافة العربية قد تغذّت من أدبه؟
صحيحٌ أن ذِكره على كلُّ لسان، وأننا نجد صدى عوالمه الإبداعية في تجارب كثيرة، وبات يُستدعى في سياق النوستالجيا الأندلسية وكأنّه عربيّ. لكنّ لوركا لم يصبح شاعراً عربياً ولم تُدمجه الثقافة الشعرية المعاصرة ضمن مفرداتها إلّا باعتباره اسماً عَلماً، وفي ما عدا ذلك فهو إلى الغياب أقرب، حاله كحال غوته ودانتي وطاغور وغيرهما.
يحضر هؤلاء باعتبارهم نجوماً، لذلك لا ينزلون إلى الأرض. ولـ"تنزيل" هؤلاء أدواتٌ تتجاوز الترجمة إلى دراستهم ونقدهم ونقل سيرتهم، بل والتأليف فيها، ناهيك عن العبور نحو فنون أخرى مثل المسرح والسينما والدراما، ودون ذلك فإن استضافة شاعر في الثقافة العربية ليست أكثر من ظنّ.
مثلاً، ينتمي لوركا إلى جماعة عُرفت بـ"جيل الـ27"، من أبرز أسمائها من الكتّاب: بيدرو ساليناس ورافائيل ألبرتي وخيراردو دييغو وبيثنتي أليكساندري. حمل هؤلاء هموم الرؤية الطليعية في الأدب والفن داخل مجتمع يبدو مكبّلاً بالتقاليد وممزّقاً بين الموروث والوافد. وهي وضعية قريبة من كثيرٍ ممّا تعيشه مجتمعات النُخَب العربية، ولكنّ حضور هذه الجماعة في متداول الثقافة العربية قليلٌ للغاية، ومجمل المرحلة التي عاش فيها لوركا، بل يبدو الشاعر الإسباني الجزءَ الذي حجب الكلّ، وكأنه لا توجد حاجة لفهم الإطار الأشمل الذي أينعت فيه مواهبه.
أحياناً تُفسَّر هذه المفارقة باغتيال لوركا في مقتبل العمر، لكنْ هل أن هذه اللحظة قد وصلتنا كثافتها وحِدّتها الإنسانية وأبعادها التراجيدية والسياسية؟ هل يمكن أن يصلنا كلّ ذلك في نصوص تعريفية من صفحات قليلة تفتتح مجموعاته الشعرية المترجمة؟
من الوجيه أن نتساءل عن أسباب هذا "التهاون" في معرفة ما هو أبعد من الحدث المعروف في كلّ مكان. أيُّ معنى لحضور هذا الاسم أو ذاك دون فهم معادلاته داخل تربته الأولى؟ هل المنشود هو ترصيع ثقافتنا بأشهر أسماء الثقافة العالمية، تماماً كما يفعل تاجرٌ في واجهة محلّه؟ والحال كذلك، فإن لوركا مجرّد شاعر قذفت به الصُدف إلى واجهة ثقافتنا.