تستعيد هذه الزاوية شخصية ثقافية عربية أو عالمية بمناسبة ذكرى ميلادها، في محاولة لإضاءة جوانب أخرى من شخصيتها أو من عوالمها الإبداعية. يصادف اليوم، الثالث عشر من شباط/ فبراير، ذكرى ميلاد الباحث في علم الاجتماع والقاص الجزائري عمّار بلحسن (1953 - 1993).
في حوارٍ معه نشرته مجلّة "كتابات معاصرة"، في عددها الثامن الصادر بتاريخ كانون الثاني/ يناير 1990، رسم الكاتب والباحث الجزائري في علم الاجتماع، عمّار بلحسن، صورةً دقيقةً عن المشهد الثقافي في الجزائر خلال عقد الثمانينيات، مُحلِّلاً ما ميّزه مِن قضايا ثقافية وفكرية، انطلاقاً مِن ثلاثة محاور أساسية؛ هي: الوضع الثقافي، والأشكال التعبيرية السائدة، وواقع المعرفة والبحث العلمي.
يُخصّص الباحث والأكاديمي في جامعة وهران، مصطفى مُرضي، دراسةً لهذا الحوار نُشر في العدد الثاني مِن مجلّة "إحالات" (2018) تحت عنوان "مفهوم الحقل الثقافي الجزائري مِن منظور عمار بلحسن"، وفيها يتوقّف عند تلك القضايا بشيء من التفصيل، مُستنداً إلى جُملةٍ من الأفكار التي طرحها بلحسن في كتبه ومقالاته التي توزّعت بين عددٍ من المجلّات الجزائرية.
مِن بين تلك الأفكار ما سمّاه بلحسن في أحد مقالاته "الثقافة المعطوبة" أو "الملفَّقة"؛ والتي يقول إنّها تبدو مواكِبةً للعصر مِن حيث الشكل، وتقليديةً وقديمة مِن حيث المضمون. يرِد هذا المفهوم، في الحوار، خلال حديثه عن الدولة الوطنية التي أتت بعد الاستعمار، وعملت "كآلة لتحديث الاقتصاد واستيراد التكنولوجيا واستحداث أشكال التنظيمات الصناعية الحديثة، بدون تحديث الثقافة"، وهو ما أدّى في النهاية إلى هذه الحداثة المعطوبة، بدل "الدخول في الحداثة والعصرنة وفي مضامينهما الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والفكرية والأدبية".
تبدو الحداثة المعطوبة مواكِبةً للعصر مِن حيث الشكل وتقليديةً مِن حيث المضمون
هذا الوضع سيُلقي، حسب بلحسن، بتبعاته على المجال الثقافي أيضاً؛ والذي يقوله إنّه أشبه بـ"الصحراء القاحلة" التي تغيب عنها فضاءات "تسمح بإنجاز حوار فكري عام ومنتظم ودائم بين المثقّفين والقرّاء والمجتمع"، وبالمحصّلة، لم تتأسّس الثقافة الجزائرية كنسيج مِن العلاقات والتبادُلات والحوارات في فعاليات جماعية ومغيّرة معبّرة ومدوَّنة تُغذّيها الكتابة، بوصفها عمليةً حداثية وعصرية.
لا ينفصل هذا التفكير عن رؤيةٍ حول دور المثقّف في المجتمع طرحها بلحسن في كتاباته المختلفة، خصوصاً في كتابه الأبرز "إنتلجينسيا أم مثقّفون في الجزائر؟" ("دار الحداثة في بيروت"، 1987) الذي حاول فيه تفكيك دور المثقَّف الجزائري بوصفه طرفاً في صراع اجتماعيّ ضدّ السياسات البيروقراطية للدولة، مُعيداً طرح هذا السؤال من منظور الأيديولوجيا التي سبق أن اشتغل عليها في كتابه "الأدب والأيديولوجيا" (1984)، وقبل ذلك في أطروحته لنيل ماجستير في علم الاجتماع، والتي حملت عنوان "الأيديولوجيا الوطنية والرواية الوطنية في الجزائر - دراسة لثلاثية محمد ديب".
في مقال له نُشر في مجلّة "التبيين" عام 1992 تحت عنوان "الكتابة والمنبر الغائب - المجلّات الثقافية في الجزائر"، قدَّم بلحسن بعضاً مِن ملامح المشهد الثقافي الجزائري خلال الثمانينيات؛ وأبرزها "الواحدية" على المستوى السياسي والفكري والأيديولوجي، و"الشفوية" على مستوى الاتصال الثقافي، و"العزلة" على مستوى العلاقات الثقافية مع البلاد العربية. كما يُلاحظ تبعية الثقافي للسياسي والأيديولوجي، وعدم تبلور إنتلجينسيا موحّدة، إلى جانب سيطرة ما يُسمّيه "المثقّفين الموظّفين" على مقاليد الأجهزة الثقافية.
ما هي المسافة التي اتخذها بلحسن مِن السلطة؟ يُجيب مصطفى مُرضي، بشكلٍ ما عن هذا السؤال بالقول: "ساهم عمار بلحسن، باعتباره مثقّفاً عضوياً بالمفهوم "الغرامشي"، ضمن التيار اليساري الذي كان يُساند السلطة مساندةً نقدية، في إنجاز ما كان يُعرف آنذاك بـ "مهام البناء" الوطني"، كما ساهم أيضاً، بوصفه عضواً في مجموعة كتّاب ينحدرون من أصول ريفية ويعيشون في مدن هجينة، ومن خلال أعماله القصصية في تلك الفترة، بتحليل وتشخيص الحياة اليومية، وهو تشخيص أشبه ما يكون بعمل أركيولوجي".
وفي هذا السياق، يُشير مُرضي إلى أنَّ بلحسن شعر بضرورة تغيير لغة القصّة القصيرة التي كانت متّسمة، في نظره، بطابع التقديس الموروث عن أدب "جمعية العلماء المسلمين"، مِن خلال الذهاب إلى لغةٍ ملتحمة مع اللهجات، تستند إلى التعبير الشعبي، وتُعبّر عن الناس، في مقابل لغة متعالية، وهو ما يظهر تطبيقُه في مجموعاته القصصية مثل: "حرائق البحر" (1980)، و"الأصوات" (1984)، و"فوانيس" (1987).
لماذا ركّز بلحسن على الثمانينيات تحديداً؟ الإجابة الأقرب هي أنَّ الباحث يتحدّث هنا عن زمنه (أُجري الحوار في كانون الأول/ ديسمبر 1988)، لكن تنبغي الإشارة أيضاً إلى أنَّ هذا العقد شهد جملةً مِن التحوّلات التي مسّت المجتمع والاقتصاد والسياسة وامتدّت إلى الثقافة، وأفضت في النهاية إلى أعنف انتفاضةٍ عاشتها البلاد في تاريخها المستقلّ. فتحَت انتفاضة الخامس من تشرين الأوّل/ أكتوبر 1988 أبواب أوّل تغيير ملموس في طبيعة نظام الحُكم الجزائري، مِن بين مظاهره الانتقال إلى التعدُّدية السياسية والإعلامية، لكنَّ هذا التغيير كان مدخَلاً إلى أحداث دموية ستستمرُّ عقداً كاملاً، وستنجرُّ عنها تحوُّلاتٌ أشدُّ دراماتيكيةً لم يعشها عمّار بلحسن ليكتُب عنها؛ فقد رحل باكراً في التاسع والعشرين من آب/ أغسطس 1993، متأثّراً بمرض السرطان.