ذكرى ميلاد: عبد الوهاب المسيري.. فكرٌ وجهتُه دحض الصهيونية

08 أكتوبر 2023
عبد الوهاب المسيري (1938 - 2008)
+ الخط -

تستعيد هذه الزاوية شخصيّة ثقافية عربية أو عالمية بمناسبة ذكرى ميلادها، في محاولة لإضاءة جوانب أُخرى من شخصيتها أو من عوالمها الإبداعية. يصادف اليوم، الثامن من تشرين الأوّل/ أكتوبر، ذكرى ميلاد المفكّر والسياسي المصري عبد الوهاب المسيري (1938 - 2008).



ربما يُعدّ التمييز بين مفهومَي العلمانية الشاملة والعلمانية الجزئية، من أكثر الموضوعات أو المداخل المُناسِبة للحديث عن اشتغالات المُفكّر المصري عبد الوهاب المسيري الذي يُصادف اليوم ذكرى ميلاده؛ فالأولى، وفقاً لصاحب موسوعة "اليهود واليهودية والصهيونية: نموذج تفسيري جديد"، أيديولوجيا كاسحة لا يوجد فيها مجالٌ للإنسان أو للقِيم، وتُحاول أن تختزل حياة الإنسان في البُعد المادّي فحسب، أمّا الثانية فتترك مجالاً للقانون الإنساني وتَلزم الصمت حيال المفاهيم المُطلقة والحياة الخاصّة والمرجعية النهائية للقرارات السياسية والاقتصادية.

وُلد المسيري في مدينة دمنهور، وتدرّج في تعليمه حتى تخرّج مُجازاً في الأدب الإنكليزي من "جامعة الإسكندرية" عام 1959، قبل أن يُسافر إلى الولايات المتّحدة بعد ذلك بأربع سنوات، وفيها حصل على درجة دكتوراه في الأدب المُقارن من "جامعة رتجرز" عام 1969. وتنقّل بعد عودته بين جامعات مصرية وعربية مختلفة مثل "عين شمس" و"الملك سعود" و"الكويت" وغيرها، إلى جانب عمله في عدد من مراكز الأبحاث، ومشاركته في تحرير بعض الدوريات الفكرية.

إنتاجاتٌ غزيرة تُفكّك البُنى العنصرية التي قامت عليها الصهيونية

في عقد السبعينيات بدأت الملامح الأُولى لاهتمام المسيري بالدراسات الاستعمارية، ومنها دلفَ إلى الصهيونية بوصفها التمثيل الأبشع والأخطر على العالَم العربي والإسلامي، ومن هُنا وقّع كتابه الأوّل في هذا الحقل، والذي حمل عنوان "نهاية التاريخ: مقدّمة لدراسة بنية الفكر الصهيوني" (1972)، ومن ثمّ أتبعه بإصدار آخر بعنوان "موسوعة المفاهيم والمصطلحات الصهيونية: رؤية نقدية" (1975). في هذين العَمَلين وضع المفكّر المصري لَبِناتٍ قوية سيبني عليها، لاحقاً، مشروعه الفكري الشامل.

وفي هذه الفترة صدرت له عدّة دراسات باللغة الإنكليزية من أهمّها كتاب "أرض الوعد: نقد الصهيونية السياسية" (1977)، كما صدر له عام 1981 كتاب من جزأين بعنوان "الأيديولوجية الصهيونية: دراسة حالة في علم اجتماع المعرفة" (1981). وبعد هذه الاشتغالات التي تُفكّك الذهنية العنصرية التي تنطلق منها أيديولوجيا الصهيونية، ذهب المسيري صوب تكوين موسوعة تكون مرجعاً في مجالها، ولكن العمل الذي كان يُخطّط لإنجازه في أعوام لم يصدر إلّا سنة 1999، وبدل أن يكون مجرّد كتابٍ يُكمّل المشروع، رأى النور على هيئة موسوعة من ثمانية مجلّدات بعنوان "موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية: نموذج تفسيري جديد".

مع هذا كلّه، لم يكتفِ المفكّر الراحل عند موسوعته التي صارت أشهر أعماله، بل توسّع أكثر في العقد الأوّل من الألفية في هذا المسار، مُحاولاً رصد الجذور الفكرية التي تُسيِّر الإجرام الصهيوني المرتكب بشكل يومي ضدّ الشعب الفلسطيني، منذ عام 1948. لهذا نجده يوقّع كتباً مثل "البروتوكولات واليهودية والصهيونية" (2003)، و"في الخطاب والمصطلح الصهيوني" (2005)، و"من هم اليهود؟ وما هي اليهودية؟ أسئلة الهوية وأزمة الدولة اليهودية" (2008).

لم يقصر المسيري اهتماماته على الموضوع الصهيوني، بل اعتبر موسوعته درساً عملياً في إطار مشروعه النظري الأوسع، والذي اشتبك فيه بمفاهيم الحداثة والإمبريالية والعلمانية، وصكّ مصطلحات ميّزت لغته المفاهيمية مثل "المجتمع التراحمي" و"المجتمع التعاقدي" و"الحلولية"، في محاولة منه لتفسير التيارات الفلسفية المأخوذة بالنزعة المادية، والتي تجرّد الإنسان من كينونته وعلاقات الروحية.

لم يقتصر على العمل الأكاديمي بل نشط سياسياً في صفوف "حركة كفاية"

وفي هذا السياق، نذكر من عناوينه: "إشكالية التحيّز: رؤية معرفية ودعوة للاجتهاد" (1993)، و"العالم من منظور غربي" (2001)، و"الفلسفة المادّية وتفكيك الإنسان" (2002)، و"الحداثة وما بعد الحداثة" (2003)، و"العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة" (2002)، و"رؤية معرفية في الحداثة الغربية" (2006).

ويُلخّص كتابه "رحلتي الفكرية، في البذور والجذور والثمر: سيرة غير ذاتية غير موضوعية" (2001) الكثير من تقاطُعات الفكري والعِلمي والشخصي في حياة المسيري، حيث يعطي القارئ صورة مُفصّلة عن كيف وُلدت أفكاره وتكوّنت، والمنهج التفسيري الذي استخدمه، خاصّة في الجزء الأول منه، والذي يرتحل بالقارئ في عوالم التيارات الفكرية، وانتقال المفكّر المصري من أيديولوجيا اليسار إلى النهل من التراث الإسلامي والعربي، ليكون من أوائل الذين قدّموا مُراجعات نقدية في هذا الصدد.

على المستوى السياسي، سعى المسيري إلى تجسيد أفكاره النظرية من خلال عدّة محطّات، كان أبرزها انضمامه إلى "حزب الوسط الإسلامي" عام 2004، كما شغل منصب المنسّق العام لـ"حركة كفاية" التي طالبت بإصلاح ديمقراطي في مصر، ونظّمت سلسلة مظاهرات احتجاجاً على إعادة انتخاب حسني مبارك لولاية رئاسية خامسة في 2005، وقد تعرّض للاعتقال أكثر من مرّة، قبل أن يرحل في "مستشفى فلسطين" بالقاهرة في الثالث من تمّوز/ يوليو 2008.

المساهمون