ذاك البيت في تيسندرلو

20 اغسطس 2022
عمل بلا عنوان لـ رام كومار (الهند)، أكريليك على ورق، 2004
+ الخط -

البيت رقم 19 في شارع الصناعة ببلدة تيسندرلو، قضاء ليمبورخ، وقد سكنّاه منذ سنتين، عن طريق الصدفة، يبدو لنا الآن وكأن القدَر كان بجانبنا، وكأننا كنّا "أبناء الحظ"؛ فلا غروَ أنه كان وسيكون أجمل بيت سكنّاه في العمر كلّه. فيلا كبيرة على شارع عامّ، في جانب طويل منه لا توجد سوى هذه الفيلا، بحديقة رائعة وبمُلحقات من غرف خشب لتربية الحيوانات والطيور، وتخزين المتروكات من حطب وأثاث. مع غابة ملاصقة للحديقة من جانبها الغربي، لا تسمع فيها طوال الوقت إلّا حركة الطيور وسقسقة العصافير، من أنواع مختلفة التغريد والحجم واللون والنوع.

بيتٌ هو من أحلامنا التي لم نجرؤ على اجتراحها سابقًا، لا يقلّ ثمنه عن مليون وربع مليون يورو. قصرٌ من طابقين، موفّرة له جميع خدمات الرفاهية، ويقوم على تدبير شأنه عمّال البلدية، كلٌ وله اختصاص. مؤمّنٌ ضد الحريق، ويُرَمّم أوّلًا بأوّل. مع عمّال بستنة للحديقة، يقصّون عشبها بآلاتهم. ناهيك عن رعاية صحّية نتلقّاها بشكل مكثّف من طيبية العائلة، مريام سيلندر، الشابّة النحيفة شديدة البياض والإنسانية، والتي لم تردّ لنا طلبًا من قبل.

ناهيك عن جيش من الممرّضات الشابّات، تزورنا اثنتان منهنّ كلّ يوم في الصباح والمساء، لتوفير وترتيب قائمة الأدوية، وللإشراف على حمّامنا اليومي، وفحص السكر. أمّا يوم الخميس من كلّ أسبوع، فتعبر علينا أربع ممرّضات، في أربعة أوقات، لكي نكون تحت اليد الأمينة والعين الساهرة. جيش من الممرضات يتغيّر ويتبدّل حسب ورديّاتهنّ. وكلهنّ بالغات اللطف، ومخلصات في عملهن. حالٌ قد لا يحظى به كثرٌ من أولاد البلد الأصليين. فالحمد لله على تمام نعمته هنا.

لا غروَ أنه كان وسيكون أجمل بيت سكنّاه في العمر كلّه

أكتب هذا بمناسبة أن المقابلة الثالثة مع الكومسّاريا اقتربت، وربما بعدها سنحصل على ورق الإقامة، لنغادر البيت. بيتٌ كتبت فيه ما لم أكتب من قبل. زمنٌ خصب قضيناه هنا معلّقين على صليب الانتظار، متذبذبين بين غبطة هادئة عميقة الإحساس بالوجود، ولعناتِ الاكتئاب الحادّ التي أصابتنا (ولدي محمّد وأنا)، بحُكم العزلة التامة، وعدم قيامنا بأيّ جهد مثل الدراسة أو العمل.

لكن، سيبقى لهذا البيت أثر الفراشة على روحنا. ولن نظفر بمثله ولا بمواصفاته مهما عشنا. فهو يستمدّ قيمته من موقعه بجوار غابة عملاقة، ومنطقة هادئة نظيفة جدًّا هي منطقة تيسندرلو. إنه البيت الذي سنحنُّ إليه، في قادم المستقبل. بيتٌ يتطلّع المرء في براحه المخضوضر، إلى أن يكون على طبيعته الأولى: "يا ربّي كما خلقتني"، وأن يكون له صوته الخاص مع التأثيرات.

وعلى الرغم من أن المرء لا يهتمّ بالموسيقى الحالية لفوضى العالم، إلّا أنه يقول إنه يجد ــ من وقت لآخر ــ أشخاصًا يشاركهم انتصارًا صغيرًا، مثل هذا الألبوم من صور الريف. وإنّ مجرد فكرة السكن في بيتٍ شبيه له، لهي من ضروب المستحيل، فأمثاله لا تُستأجر بأقل من ألفي يورو في الشهر، فأنّى سيكون لنا ذلك؟ 


* شاعر فلسطيني مقيم في بلجيكا

موقف
التحديثات الحية
المساهمون