ذاتٌ تكتُبُ وكأنها آخَر

06 ديسمبر 2020
("عازف السيتار"، مقبول فدا حسين)
+ الخط -

قد لا نَستطيعُ استرجاعَ تجربة شِعْرية شَخصية، بِحقيقة تفاصيلِها وبتفاصيل حَقيقتِها، خاصة إذا جَرفَها نَهرُ الزمن، واستحال علينا الِالتفاتُ إلى الوراء دون المُجازفة بِفقدان كُلِّ شيء. لا نَنسَى أنَّ التفاتة الحُب هي أيضا التفاتةُ ضَياع الحُب. لذلك، وأنا أستعيدُ الآنَ تَجربة "كتاب الأعمى" (بِمُناسَبة نَقلِه إلى الفَرنسية مِن طرف الصديق المُترجم كمال التومي، وصُدورِه عن بيت الشعر)، لا أستطيعُ أن أنجُوَ مِن هذا القَدَر الأورفيوسي. وما أجهدُ لِقولِه الآن خَلف ذلك الباب الذي انغلَقَ إلى الأبد، لا يَعْدو أنْ يَكونَ ابتعاثا لِشَذراتٍ مِنَ الهواجس الشِّعرية والوُجودية الدفينة، التي يُحتمَل أنْ يَكون الزَّمنُ قَد أحاطَها بطبقة شَفَّافَةٍ منَ الخُيوط المُلتَمِعة مِثل أثواب الحقيقة.

كتبتُ "كتابَ الأعمى"، في حالة مِن الاِنخطاف المَحموم، بِهاجس القبض على الكِتاب. هو حِصَّتي الصغيرة مِن المَجهول المَحلومِ بالقبض عَليه. مَشيْتُ إليْه مُتجرِّدا مِن عاداتي وليس مِن خِبرَتي وهواجسي، فوجَدتُه هو الآخَر يَسعَى إليَّ بِذاتِ العَزْم. لَمْ أضَعْ تصميما يَجعَلُ الكتاب يَنبثِقُ مِن عَقلي، كما تُوحي بذلك تعاليمُ مالارميه، وإنما تَركتُ الكلمة تَنبثِقُ مِن جَوفي لِتُشيِّدَ هيكلَها الفني على نَحْوٍ حُرِّ. الكلِمَة تثِقُ في إمكاناتِها وتَعرفُ كيفَ تُشيِّدُ عوالِمَها كُلَّما انبثقَتْ ساخِنة مِن الدَّم. ذلك ما عَلَّمَتني إيَّاه الكلماتُ، وأنا أجدُها تَشُدُّ بِرِقاب بَعضها لِتنسُج كِتابَها على غير مِثال سابِق.

كانتِ الكلماتُ قادمَة مِن حِدادٍ طويلٍ عاشَتْه بِألَمٍ صامِت، فَعثرتْ في لَيلَةٍ مُتوَهِّجة على نُقطة البداية، كما عَثرتْ على صوتِ الأعمى يَخترِقُها مُتبادِلا الدَّورَ مَع صَوْتِ الشاعر. انقِسامٌ يَتَوَزَّع دَمَ الكلِماتِ لَيَحْضُنَ تَجربةً حِدادية لا تَرغَبُ في التَّنفيس وإنما في الكِتابَة، وبالتالي في الظَّفْرِ بالكِتابِ. إنه إذن حِدادُ كِتابةٍ تأليفيٌّ وليسَ تعبيريا. وذلك بالمَعنى الذي جَعَلَ مِنه مُغامرَةَ ذاتٍ تكتُبُ وكأنها آخَر. ما يَصْعَدُ من الجَوف، يَمْضي نحو مَوضوعِيَة التأليف، التي تَجعَلُ الكِتابة تُغامِرُ بِنَسْج تَراسُلات ثقافية تتواشَجُ عناصِرُها وتَتوالَجُ في نَسيجٍ مُحكَمٍ، يَطوي ويُحوِّل ويتَجاوَزُ لأنه يُريدُ أن يَصْعَد بالمَرثية إلى مَراقي الكِتاب البِلَّوري، شَديد التوهُّج، شَبَكِي الأبعاد.

لا ننسى أنّ التفاتة الحُب هي أيضاً التفاتةُ ضَياع الحُب

مَوْتُ الأخت اتخَذَ كُلَّ أبعاد المَوت، وقصيدتُه توثَّقتْ عُراها في نَسيج الكِتاب. وعَبر فِعْلِ الكتابة، المُتوهِّجة بانخطافِها وأحزانِ يَقظتِها، كانتِ الدوال الإيقاعية تُفرزُ خُيوطا يَنتسِجُ من مَجموعِها "كِتاب الأعمى". كان الشاعِرُ يتبادَلُ شفافيتَه ومَراياها الداخلية مع الأعمَى، الذي يَمدُّه بِدَورِه ببَصيرة نفَّاذةٍ هي بَصيرةُ الرَّائين، القادرة على اختراق عَتمة التجارِب ومَجهول الحياة والمَوْتِ والكتابة والزَّمَنِ والأبدية والأمكنة الحُدودية، التي يَضيعُ في مَداها الإنسانُ، دون أنْ يَكُفَّ الشِّعْرُ عَن أنْ يَجعَلَ منها مُنطلَقا لِلبَحْث والكَشْفِ والتَّوْطين، مُنطلَقا لِلكِتابة وإعادَةِ الكِتابَة بما هي سَفَرٌ في طُروس مَجهولة، علاماتُها المَمْحُوة أكبَرُ مِن علاماتِها المُتوهِّجة على امتداد الطريق.

كتاب الأعمى - القسم الثقافي

اِنبثقتِ الكَلِمةُ، منذ هوميروس، مِن ذاتٍ تُؤالِفُ بين الشِّعر والعَمَى. وحدة مصير قدرية تعلَّقت بالكلمات. انْبثقتِ الكلِمة مِنَ العَتَماتِ وَسَعَتْ لِإضاءَتها وإضاءة العَالَم مِن حَوْلِها. إنه ليس تقليدا، ولكنَّه قَدَرٌ شِعْرِيٌّ جَرَفَ ذَواتٍ أخرَى، فعَرَفَتِ الكلِمَة كيفَ تَنبثِقُ عَموديَّة مِن أعماقِه، لِتُضيءَ وتَبقَى مُضيئة ساهِرَة على مَرِّ العُصور. كَلِمةٌ زادَ في تأجُّجِها شُعراء مِن الغرب والشرق أمثال مِيلتون والمَعرِّي وبورخيس. وليس التأجُّجُ هُنا إلا لَهباً شِعْريا مُتجدِّدا لِشَجرة أنسابٍ نارية، مِنها يَخْتطِف "كتاب الأعمى" ما يُضيءُ بِه ويَستَضيء. وليس الاِختطافُ هُنا إلا مُجازَفة بروميتيوسية تُوثِرُ الهُبوط بِنار الشِّعر إلى أرض الحِداد الكبرى، قريبا مِن لَهَب الشُّعَراء وبَعيدا عَن خَطواتِهِم. في هذه الأرض، وَجَدَتِ اليَدُ الكاتِبَة ما تَنحَني بِه على حِدادِها الشَّخصِيِّ انحناءة كتابَةٍ مُسْتَجِلِيةٍ، ناشِرة، يَتَّحِدُ عَبرَها الشاعِرُ والأعمَى من جديد، في مُخاطَرة الكَشفِ فيما هي تَجعَلُ مِن ذَواتِهما مَوْضوعا لها. 

يُجرِّعُنا مَرارة الفقدان، لكنَّه يُورِّثُنا استمرارية الأغاني

لا يَقِفُ العَمَى خَلفِية للكتابة، وإنَّما يَكونُ أساسَ نَسيجِها. لكنَّه لا يَتقدَّم في هذا النَّسيج النَّصِّي مُنفَصِلا عن قَدَرِه الشعري بما هو قَدَرُ الكلمات المُتوهِّجة بِلَهب الرُّؤيا. لُعبَة البناء وهي تبني شذَراتٍ وكُتلَا شِعرية مُلتَهِبة، تُكثَّفُ الذاتَ فيما هي تَهبِطُ عَميقا في أغوارِها، جارِفة عناصِرَ العالَم وفضاءاتِه المُوحِشة البِكر (البحر/ الصحراء/ المَتاه، البرية) بِاتِّجاه تشكيل المكان الشِّعري بِوَصْفِه مَكان المُخاطَرة والإيناع. يُكتَبُ هناك العَمَى مُتفاعِلا مع عناصر الطبيعة المُوغِلة في القِدَم، لِتأجيج البصيرَة الرُّؤيَوية، التي تُحوِّل تجربةَ الكتابة إلى تَجرِبَةٍ في الكَشْفِ. هُنا، يَأخُذ الحِدادُ أبعادا شِعْرية مُرَكَّبة، تُصبِحُ مَعَها المَرثية أغنية مَلحمِيَّةً (ولَوْ مُتقطِّعة) شَجِية، عَميقة النفَس مُتعَدِّدةِ الأبعاد.

تَشُدُّ شَذَراتُ "كتاب الأعمى" بِرِقاب بَعضِها. ما يَبدو مُنفَصِلا يَعودُ لٍيلتَحِمَ بِقُوة. الشذراتُ لا تَنشُد التجاوُر الهادئ، وإنما تبادُل اللهب والإشعاع مِن مكانِها الفوّار الذي يَطوي ويُرسِل مع كُلِّ فِعل قِراءة. واستعارة الثُّعبان الذي يَعُضُّ على ذيلَه (وصفُ بودلير لقصائد النثر في مُقدمة كِتابِه "سُويداء باريس")، تَصلُحُ هُنا لِوصف التلاحُم الناري الذي يَشُدُّ بِداية الكتاب إلى نِهايَته. شَذراتُ الكتابةُ لا تَنفصِل عَن قُوة إشعاعاتها المُتبادلة، ولا عَن أثر تلك العَضَّة المُحكَمة، التي تَشدُّ رأسَ الثُّعبان إلى ذَيْلِه. وسَواءٌ مَضَتِ الشَّذراتُ فيما يُشبِهُ الحِكْمة والسَّردَ والحوار والغِناءَ المُلتاعَ والمَرثية المَبحوحَة، فإنَّها تُوَسِّعُ مِن فضاءِ تَراسُلِها الشِّعري على نَحوٍ يَجعَلُ مِنها مُحاوِرَة لأزمنة عَمودية في الذات والعالَم والثقافة.

هَل أفضتْ هذه الخيوطُ المُبتَعَثة مِن ذاكرة الكتابة أو مُتخيَّلِها الشخصي إلى نَسْج حقيقة "كتاب الأعمى"، أم أنَّ الأمر لا يَعدو أن يَكون التفافا على القَدَر الأورفيوسي بما يَستديمُ "سِرَّ كِتابَة" ضائعة؟ هذا التأمُّلُ أو غيرُه لا يمْلِك الجواب. مِن حُسْنِ الحَظ أنَّ "كتاب الأعمى" ما يَزال ماثلاً، ولَعلَّه يَمضي الآن شَغِفا بما يَلْهجُ بِه مِن فَرنسية، جاءتْ لِاحتضانِ لِسانِه العَرَبي، وكأنما لِاحتضان اللَّهب المُضيء. القَدَرُ الأورفيوسي يُجرِّعُنا مَرارَة الفقدان، لكنَّه يُورِّثُنا استمرارية المَراثي والأغاني في السَّهَر على قَدَر الإنسان.


بطاقة

شاعر وناقد مغربي، من مواليد الدار البيضاء عام 1965. حاصل على دكتوراه في الأدب العربي الحديث من "جامعة محمد الخامس" في الرباط. صدرت له في الشعر ستّ مجموعات: "غمغمات قاطفي الموت" (1997)، و"أعمال المجهول" (2007)، و"مدينة نائمة" (2009)، و"كتاب الأعمى" (2011 وطبعة مزدوجة اللغة في 2020)، و"غسق الغراب شفق اليمامة" (2014)، و"أغنية طائر التم" (2017). وله في النقد: "الخطاب الموازي للقصيدة العربية المعاصرة" (2007)، و"شعرية البجعة" (2011).

نصوص
التحديثات الحية
المساهمون